pregnancy

قبل أن يصل القطار - الجزء الثالث والأخير.

رواية - طارق عميرة

الجزء الثالث :
 عندمَا جلس باهر على المقعد المواجه لحورس , قال شبيه الضيف من خلفه :
- الرابع , وإنه لأشدهم خساسَة , وأكثرهُم خيانَة .
ينظر له حورس قائلاً :
- فما جريمته ؟
يرفع الضيف يده ويشير إشارته فيختفي المسرح لينتقل إلى مشاهد متعددة في حيَاة باهر , في صغره ربما في الرابعة عشرة , كان يتسلل لمنزل ما مطفأ الأنوار , يسكب سائلاً ثم يشعل النار ويعدو بأقسى سرعته , تنتشر النار في كل مكان وتدوي صرخَات استغاثة حادة لم تظهر نتيجتها فقد انتقل الشبيه لمشاهد أخرى ..
حوادث عنف متعمدة في ملاعب الكرة , مشاجرات مع من هم أضعف ومن هم أصغر ومن هم أقل , تمر هذه الصور كمشاهد تمهيدية عندما يقف الشبيه عند هذا المشهد فجأة ..
كان طالبًا في الطب يعمل في عيادة ما , عشرات حالات الإجهاض حتى أن العرض استمر كثيرًا , في حالات تموت الأم ولكن من قال أن هذا يعني أي أحد , بمهاراته المحدودة في التشريح والطبيب الذي يساعده تتحول المرأة إلى قطع صغيرة من اللحم والعظام لربما عالجوها ووضعوها في الفورمالين ثم باعوها للطلبة بعد ذلك .
لشد ما كانت المشاهد مختصرة للحياة , يفكر أمير من موضعه جوار منال داخل العربة ينتظران دورهمَا ..
ما هذا الإجرام و كيف أفلت كل هؤلاء من العقاب ؟ ينظر أمامه فيبدو له أنهم لم يفلتوا , يتساءل عن جرائم منال والأهم جرائمه , يقرر أن لا يتعجل فكل لحظة تذهب تقربهم من نهايتهم المحتومة ..
 ينظر حولهُ مجددًا ويبدو أن عقله يأبى الرضوخ والاستسلام للمصير الذي يراه , ينظر للضيف الذي يقف وقفته يشاهد وكأنه لا شيء يعنيه ..
يسمع صوت منال أخيرًا تقول :
- هل هناك سبيل للخروج ؟
ينظر لها ثم يقول :
- لقد تأخر سؤالك كثيرًا , أخشى أنه حتى لو وجدناه , فلن يسعفنَا الوقت له ..
تقول له وهي تنقل بصرها حولها مثله :
- فلنجده أولاً ..
في أعماقه تبرز سخرية كبيرة , لم تجسر على احتلال محل الفزع في وجهه , لكنه بشكل ما كان يشعر بالشماتة عندما بدأوا يفكرون الآن فقط كيف يخرجون , رغم أنهم يعرفون ما سيصلون إليه منذ البداية ..
يقول لمنال :
- لا تضيعي وقتك , فلتنتظري !
تقول له منال :
- يبدو أن العمر كله قد ضاع , وما الضير في محاولة أخيرة ..
ينقل بصره بينها وبين الضيف , ثم ينقله حوله وعقله يدور في سرعة , قبل أن تسطع في ذهنه فكرة فجأة ,. بينما منال تشاهد في صمتٍ ما يفعله باهر , وما تعرضه محاكمته الوهمية ..
الآن باهر طبيب في مشفى عبد الظاهر لكنه لا يغادر غرفة العمليات إلا لمامًا فعليه عبء ضخم , مع زميلين له طوال النهار يستأصلون كلىً وقرنيات وقلوب وكبد و كل ما يصلح في ما يأتيهم من حالات بلغ الأطفال النسبة العظمى منها , كان الطفل يدخل مخدرًا نائمًا كالملاك ويخرج جثة هامدة خاليًا من أجهزته التي وهبها الله له .
أما باهر فكان يفعل ذلك مع زملاؤه في بساطة , في مشاهد كثيرة كان يمزح ويأكل و يشرب بل ويدخن وهو يمارس عمله القذر , ترى هل ترى نورَا وسط عذابها الآن خياناته المتعددة التي تعرض أمامهم مع زميلاتها أو غيرهن .
الأقذر من ذلك كله جرائم الاغتصاب الكاملة التي تتم تحت التخدير , لا بأس من العبث بهذه الأجساد فربما لن تعود حية مرةً اخرى , هناك حالة يبدو أن المخدر لم يكن قويًا كفايةً لإسكاتها , ذبحها بمشرطه بلا رحمة و بفعل عادي وكأنما شريان الحياة يشبه لديه أي شريان آخر , كان عمليًا جدًا , وكان يعتبر نفسه إلهًا ..
بينما الممرضين من حوله في كل جريمة يختلف شكلهم , يبدو أن للمال سطوته وأن هؤلاء القوم كانوا يربحون جيدًا , في بعض المشاهد تظهر نورا وهي تساعده , تناوله مشرطًا أو صندوقًا أو تقوم بنقل شيءٍ ما , في مشاهد أخرى فريق آخر , في مشاهد ثالثة أماكن أخرى وعمليات مختلفة .
صحيح أن عبد الظاهر كان يدفع جيدًا لكنه لم يكن الجهة الوحيدَة , هناك أكثر من عيادة للإجهاض أيضًا , هناك من لم يوافق على ما يحدث وقد كان الجثة الجديدة الممددة على سرير الجراحات .
لم يتوقع ذلك الممرض الأحمق ذلك كان عليه أن يعلن رفضه من الخارج لا وهو في مسرح الجريمة حيث لا تكف عن الحدوث , لم يصدق حين وجد زملاءه يحيطون به ويُباغت بهم يحقنونه ليفيق مقيدًا في إحكام فوق السرير , كانت هذه جريمة قتل كاملة تمت بأوامر باهر وحده الذي استخرج من الجثة ما يصلح فيما بعد ..
الحقيقة أن هذا كان مما يفوق القدرة على الاحتمال , وقد كانت منال مخدرة بالكامل إزاء ما تراه من مشاهد رهيبة , بينما أمير يحرره أن جزءًا من عقله لا يكف عن التفكير في تنفيذ فكرته للخروج ..
المشاهد أمامهم كالسحر حتى أنهم لا يقوون على شيء , إنها تسلب كل آمالهم وحياتهم , كيف جرؤ على محاولته السابقة وكيف يجرؤ على فعل ما يفكر به الآن ..
ينادي :
- منال !
لا يبدو أنها تسمعه وهي ترمق المشاهد من حياة باهر مبهورةً , ينادي وهو يجذبها من ذراعها بشدة لتنتبه فورًا :
- منال , هل تفكرين في الخلاص ؟
تقول له منتبهة بكل الفزع واللهفة في نفس الوقت :
- بالتأكيد ..
يقول لها :
- انظري للخلف , هناك نوافذ مكسورة , أرى أن المحاولة الوحيدة المتاحة أمامنا , هي الخروج منها !
تنظر لها ويدور رأسها في تفكير , تقول :
- وهل تعرف ماذا هنا ؟
يجيب فورًا :
- كلا ولكنه بالتأكيد لا يوجد أسوأ مما هو أمامنا !
يقُول بعد صمت :
- سأتحرك , إذا رغبت البقاء يمكنك ذلك .. 
وأمام عيني منال المذهولتين الحائرتين , الغير قادرتين على إتخاذ القرار , كان المشهد في الخارج قد عاد لطبيعته بعد أن إنتهى استعراض جرائم باهر وهو يواجه حورس الذي قال :
- إن الشياطين لهي تلاميذ لك , وإن الخيانة لفي دمكِ كما يجري السمك في البحار , وإن الخسة لطعامك , وإن الحنث بالقسم لإثم لا تجسر عليه هذي المُسوخ .
يتابع :
- إنك لبالعقاب جدير , ولك منه ما قد يكفي وإنه لا شيء يكفيك .
وينظر لشبيه الضيف ويقول :
- فله العذابات السبعة , في كل ساعة أحدها بلا كسل أو كلل ..
تتصايح المسوخ حوله وكأنما يبدو ان هذا العقاب هو أكثر ما أثار انتباهها وسعادتها , بينما يأخذ شبيه الضيف باهر من قدمه ويجره عبر الأرض ويتقدم شبيه جديد للضيف من الضيف على باب القطار وهو ينادي :
- فليحضُر الـ..
وقبل أن تكتمل جملته يسمعون صوت إرتطام شيء فينظر إلى داخل القطار ليجد أمير يقفز خارجًا بعد أن القى منَال أمامه خارج القطار من جهة الخلف , وقبل أن يظهر الضيف امامه , كان أمير قد قفز خلفها بينما يصيح حورس فيهم :
- أحضروهم 
عندما قفز أمير من القطار وجد نفسه يسقط على بعد متر واحد منه , ما إن أمسك بيد منال و جذبها واستعد للعدو حتى وجد الضيف أمامه يقف كالحائط , توقف وهو يشهق بينما صرخَت منَال قبل أن تسقط أرضًا ..
تلقائيًا ترك أمير يدهَا , عبثًا حاول العدو في الجهة الأخرى , ليجد الضيف أمامه مرةً أخرى , يسمع حورس يهتف :
- لا تؤذوهما , أريدهمَا كما همَا ..
يحاول أمير التملص مجددًا لكنه يجد الضيف يظهر مرةً أخرى ويلطمه بيده ليطير مسافة مترين قبل أن يسقط أرضًا , يسمع الضيف يقُول:
- أحمق أنت , وإنك لتستحق أن تتيه هنا .
يهتف أمير وهو يئن من إثر اللطمة :
- دعني لحماقتي إذن .
يقول الضيف :
- لو أن اليد لي لفعلت , العدم هو ما ستراه, لكن المصير حتمٌ لا بد منه ..
ينهي عبارته ليظهر جواره شبيهان له يتلقط أحدهما ذراع أمير بينما يمسك الآخر بيد منال , يتقدمها الضيف عائدًا إلى الرصيف وهو يدور حول القطار ليدخل إلى المحطة الأخيرة من جديد .
يسير الموكب وما إن يتوقف أمام حورس حتى يوجه كلامه للضيف قائلاً :
- ما قصة هذين ؟
يقول الضيف :
- بل ما قصة هذا ؟ إنها حمقَاء تتبعه كما يتبع القطيع الراعي .
يقول حورس :
- حمقاء لماذا ؟ لكان الأجدر أن يتبعونه من البداية ما دام راعيًا وما داموا قطيعًا ..
يقول الضيف :
- وإنه لأكثرهم شرورًا وأسوأهم نفسًا وأشدهم تمردَا 
يسأل حورس :
- وكيف ذلك ؟
يقول الضيف :
- لم يأت أوانه بعد , وإن كان صعب الرضوخ أبيّ التسليم ..
يقول حورس وهو ينقل عينيه الرهيبتين بين الضيف وأمير :
- حقًا إن له لأوان ..
يشير لشبيه الضيف الذي يمسك بأمير فيتنحى جانبًا ليقف بجوار مسخ من المسوخ ينظر لأمير ويكشر عن أنيابه في ابتسامة , بينما يتقدم الآخر الذي يمسك بذراع منال , يشير حورس للضيف الذي بقي واقفًا في المنتصف قائلاً :
- كان مكانك الباب , يهبط الأخير لتبدأ عودتك , أما الآن وقد لامست قدماك أرضنَا , فإنك لباقٍ حتى ننظر في أمرك ..
ويشير له بيده ليأخذ جانبًا من أمير , يتحرك الضيف في بطء وجمود , بينما يُجلس الشبيه منال التي كانت شديدة الفزع على المقعد المواجه للمنصة , يقول الشبيه خلفها :
- الخامسة , وإنّها لأحقرهم شانًا , و آخرهم عقلاً 
يقُول حُورس :
-  فما جريمتها ؟
يشير الشبيه إشارة بيده لتختفي المنصة أمام عيني أمير وتنتقل لتعرض المشاهد من حياة منال ..
عاهرةً صغيرةً كانت ..
في مدرستها ربما الثانوية تظهر المشاهد كيف كانت تعبث مع الجميع , مع كل من يريد وما أكثرهم في ذلك الوقت , هناك من كانت تنظره في فصلٍ خال , هناك من كانت تلتقيه في المدرسة , هناك من هو خارجها , تعددت مغامراتها بين مداخل وسلالم وأماكن كثيرة خفية ربما ظاهرة ..
في الجامعة لم تختلف المشاهد كثيرًا , فقط تطورت لشقق و حفلات و صداقات و علاقات جميعها كانت تنتهي بها بين احضان أي زميل أو رجل , وكانت تقبل بأي امتهانٍ في سبيل الوصول لغايتها , هناك من كان يصفعها , هناك من كان يجلدها , هل كانت تستمتع بذلك ؟
يتساءل أمير وهو يشاهد وينظر حوله فلا يجد سوى عالم منال البغيض , هل كان سعيد يعرف ؟ إذا لقتلها وقد رأى شراسته , من الجيد أنه لا يشاهد ما يشاهده الآن أم تراه يشاهد ليتضاعف عذابه في الجحيم ..
ينظر أمير جواره وحوله فيجد الضيف والشبيه الذي يمسك بذراعه والمسوخ الواقفة تتأمل من الخلف وكأنهم يشاهدون شيئًا عجيبًا , يبدو أنهم فرحون , يبدو أنهم يتصايحون , يبدو أنهم يعلقون على ما يرون ولكن شيئًا من ذلك لا يظهر له أي صوت في حياة منال التي تعرض أمامهم جميعًا وكل مشاهدها شهوانية مخجلة ..
في تلك اللحظة كان يعرض أمامه مشهد منال وهي تثير عبد الظاهر الذي استدعاها لمكتبه وأغلقه لتبدأ جولة جديدة , هكذا كانت علاقتهما , يفكر أمير وهو يرى كيف تُرضي منال عبد الظاهر , هل كان هذا بإيعازٍ من سعيد ؟ هل كان يعلم أم تراهُ أمرها بذلك ليحقق غايته في الوصول لما يرغب بمعرفته عن عبد الظاهر ..
وسط كل هذا الجحيم ترتسم ضحكة ساخرة على وجه أمير وهو يفكر كيف كانت منال تتظاهر بالغضب الشديد وتزعم قتلها لسعيد لأنه يعاشر صديقاتها ويقتلهن , صار يشك في هذا لربما هناك سبب آخر سيعرفه حتمًا وهو يشاهد مشاهدها الأخيرة قبل ان تبدأ مشاهده الأخيرة في الظهور ..
عاهرةً كبيرةً كانَت ..
كما كانت تدمن الإذلال , يشاهد أمير ممتعضًا وعقلها يجن , كان ذلك الجزء الرافض منه ما زال يأبى الإستسلام , لكنه طوال تلك الرحلة المشئومة لم يشعر أنه مقيّد مثلما يشعُر الآن .
هناك بعض المشاهد منال تعرف صديقاتها بسعيد , مشاهد أخرى تجلبهن له منفردات , مشاهد ثالثة تساعده في قتلهن !!
كان أمير يتطلع مذهولاً , لم يقل أحد الصدق في هذه الرحلة , وإن هذا العرض لكاشف , يتلفت للمسوخ التي تشاهد بدورها حوله ويفكر, رغم بشاعة هيئاتهم وصيحاتهم ولكنهم يبدون ملائكة أمام من رأى حياتهم تعرض أمام عينيه , لقد كان رفاقه في الرحلة هم أسوأ المسوخ , وإنه لاسوأهم كما يقول قانون هذا المكان ..
ينتهي العرض ومنال تقتل سعيد , لم يكن رد فعل , لم تكن غيرة , لم يكن انتقامًا فقط خلاف ماديٌ بحت على أنصبتهمَا من إحدى الضحايا!
وعندما عاد المشهد لقاعة العرض حيث يجلس حورس كان أمير قد بلغ الفزع منه مبلغه , فقد كان وقته الباقي قد بدأ في التناقص وبعد لحظات سيكون هو الشريط السينمائي الجديد الذي تستمتع به هذي الوحوش .
يقول حورس قاطعًا الصمت الرهيب الذي خيم على المكان بعد إنتهاء العرض :
- إنك لأذكاهم شرًا وأكثرهم أقنعَة وإنك لدرس لم يفهمه البشر , يرون البراءة والجمال فيظنون أن ما ظهر مثلمَا بطن , بينمَا في القلب أنتِ آخر من يستحق الشفقة ..
ينظر للشبيه خلفها ويقول : 
- فليثقب جسدها بسيوف من نار , وكلما عبرت من ظهرهَا عادت لتُطعَن من جديد وليكونّن صراخهَا مما يبهج الموتى ويُذهلُ المعذبين ..
يوميء له الشبيه قبل أن يدور ليجرها جرًا من ساقهَا بينما يرفع حورس رأسه جهة أمير , وتعود المسوخ للتصايح وقد علت صيحاتها واشتعل المكان بالحماس , فقد حان دور الأخير 
أما أمير فقد كاد يفقد صوابه من الرعب , عندما دوّى صوتُ النداء 
عندما همّ الشبيه الذي يمسك بأمير بالحركة وهو يجذبه من ذراعه , كانت الصيحات قد بلغت أوجهَا , والمطالبة بالعذاب تدوي في كل مكان من كل الأفواه , صاح حورَس في الشبيه :
- توقّف !
يتوقف الشبيه هاتفًا :
- الأمر لك يا قاضي النار , وملك الأقدار .
يقول حورس وهو يشير جهة الضيف :
- تعرف القانون , السادس هو الأخير , والسابع سيعُود ..
لا يرد الضيف فلا أحد يرد على حورس, لكنه يسقط على ركبته بينما تنتكس عمامته ناظرًا إلى الأرض , بينمَا يسود الصمت مرةً اخرى والجميع ينظر مترقبًا متسائلاً لم أوقف حورس الشبيه , يقول حورس وهو يحدث الضيف :
- إن السادس لهو أنت , وإن العدل أنك دوما باقٍ للنهاية لأنك الأكثر شرًا , لكن التمرّد الفاشل لهذا البشري لهو خطأك.
يترك الشبيه ذراع أمير ويلتقط ذراع شبيهه ليقوده إلى المقعد السادس بينما تستنكر المسوخ بينما يهتف الضيف :
- أنا لم أخطيء , وإنه لأمامك ليرى مصيره .
يقول حورس :
- بل أخطأت , الذل طريق من هو آتٍ هنَا والعجز سجنه , والذهول مصيره , لا أحد ينظر للأعلى , أنت جلبت من حاول الهروب مرارًا , وإني لأراه متكبرًا متمردًا وإني لأراها جريمةً تفُوق جرائمهُم 
يقول الضيف :
- ما فعلتُ إلا مهمتّي وما أنا مكّلف به !
يقول حورس :
- لكان أجدى أن تجلب راكبًا غيره , لكان من الجلي أنه يفكر , أنه ما زال يسعى للحيَاة , في رحلتك جاء , وفي حضورك تمرّد , وإنك لحاملٌ إثمه .
يقول الضيف :
- فلتمنحني فرصةً ثانية , في الرحلة القادِمة ليكونن أذلاء ..
يقول حورس :
- فرصةً ثانية لا ينالها إلا الأخير , وأنت لم تعد هو ..
يقول الضيف :
- لا أرغب بالعودة ..
يقول حورس :
- لا أحد هنا يجسر أن يرغب ! , إن الجحيم لموطنك ولعودتك يتوق , وإنك له لعائَد 
كان أمير يُراقب غير قادرٍ على إستيعاب ما يحدث أمامه , الذهول أغشى عينيه , وقد جهز نفسه لعرض مصيره واستسلم له ليجد أنه لم يجلس بعد منال بل للعجَب كان الضيف هو السادس , رغم الحديث أمامه فإنه حاول فهم ما يستطيع منه , كان قلبه يتواثب , هل يعني هذا أنه لن يُحاكم ؟ هل يعني هذا أنه سيعُود ؟
تمر صور زملاؤه بالرحلة في ذهنه , يفكر فيهم وفي حياتهم الملليئة بالجريمة , إنهم يواجهون الآن عذابات لا حد لها , حتى أنه يشفق عليهم رغم أنه قد يراها أقل ما يستحقونه ..
ينظر للمسوخ حولهُ فيخيّل إليه أنهم حزانى , كانوا ينظرون للضيف وينقلون بصرهم بينه وبين حورس وكانما لا يصدقون ما يحدث , يسمع الضيف يقول في محاولة بائسة للبقاء :
- قمتُ بألف رحلة , فلتشفع لي جميعهن , أو إحداهن ..
يقول حورس : 
- عدت ألف مرة , والآن تخطيء؟ فإنك لأجدرهم بالعقاب ..
يسود صمت قبل أن يسأل الضيف ويبدو أنه قد استسلم لقدره :
- فهل من عودة بعد العودَة ..
يقول حورس :
- الأمر أمري هنَا وإنه لعالمي وملكي , أما هناك فلا شأن لي ..
ويشير للشبيه الذي يقف خلفه :
- إن أقل جزاء لخرق النظام العودة , فليعد إلى مستقره 
ويشير لشبيهٍ آخر جهة أمير فيتقدم إليه الشبيه ويمسك بذراعه ليقوده إلى المقعد حيث يواجه حورس الذي يقول له :
- إنك لأكثر الًبشر حظًا وأوفرهمً نصيبًا , أول العائدين منهُم أنت ..
يجد أمير أن حورس لم يسأل عن جريمته , وأنه لا يشعر بأن الذهول ينتابه كما شعر كل رفاقه , ينظر جهة حورس ويقول :
- أهذا هو الحساب ؟
أتم قوله ليعلو صوت الصيحات من جديد , صيحات فزع وغضبٍ و مقت , ينظر للمسوخ المتصايحة الناظرة له في شراسة ويتمنى في سره ألا يذكر هذه المشاهد أبدًا , يسود الصمت عندما يقول حورس :
- لم يفتح بشرٌ هنَا فمه منذ بدأ الإنسان يأتي , وإنك للأحق بالعودة لكن لكل شيء ثمَن .
يصمت حورس بينما يبهت أمير ولا يجرؤ على الحديث مرةً أخرى , يسمعه يتابع ببطء :
- ليس هذا حسابًا , هذا عقابٌ وإنه لرحمَة يومًا قد يعرفون قدرهَا .
وينظر لأمير ويقول له :
- قليلون من يجيئون وإنهم لتعساء وإنك لأسعدهم , أشرهم هو أنت لأنك هو آخرهم وإن عرضك كان ليكون جديرًا بالأسوأ , لكن القانون هو القانون , لربما يومًا ما تعُود لي ولربما يومًا ما أنتظرك ..
يسود الصمتُ بعدهَا بينما أمير جالسٌ عالى المقعد يتطلع إلى حورس في انتباه كامل , الذي ما إن إنتهى من كلامه حتى بدأت الأضواء حول أمير في السطوع الشديد للدرجة التي أغشت عينيه ليرفع يديه مقاومًا شدة الإضاءة بعد أن أغلقهمَا ..
عندمَا هدأت الأصوات حولهُ تمامًا حتى لم تعُد أذنه تسمع أي صوت فتح عينيه وشدّ ما كان المشهد مختلفًا , كانت المحطة الأخيرة قد اختفت بكل مسوخها , بالضيف , بحورس , وبرفاقه اللذين جاءوا معه , أما المحطة التي كان يقف فيها فرغم أنها تبدو منعزلة إلا أن ضوء النهار كان له وقع شديد التفاؤل في نفس أمير الذي شاهد ما هو أسوأ من كوابيسه .
ينظر أمامه وخلفه فيجد مساحات خضراء بامتداد البصر , أشجار مختلفة وزاراعات يبدو أنه لا نهاية له وتبدو المحطة عجيبَة في المنتصف , ينظر حوله فيبدأ يميز أن هناك آخرين , وأن هناك باب دخول للمحطة يتوافد الركاب في بطء شديد إلى الرصيف المقابل له , بينما على الرصيف الآخر يقف منفردًا ..
يحاول أن ينادي أي راكب :
- يا سيد ؟ يا سيدة ؟ 
لا يبدو أنهم يرونه أو يعيرونه أي اهتمام , كانوا مذهولين لكنهم لم يكونوا فزعين , وكانوا واقفين في عجلة ينتظرون قطارهم الذي ما لبث أن جاء , قطارٌ جميل مزدان بالورود و الألوان , وله رائحة عطرية جميلة وصلت إلى أنف أمير الواقف على الرصيف الآخر يفكر هل يقفز ليركب هذا القطار , ينظر أمير للقضبان حتى يقفز ليصعد إلى القطار الذي يقف الجهة الأخرى فلا يجد قضبانًا ومن المستحيل أن يقفز هذه المساحَة , يفكر أن هذا ليس القطار الذي من المفترض أن يركبه ..
ينظر إلى القطار وهو ينطلق في حسرةٍ من عجزه الوصول إليه , تقترب منه متسولة عجوز كأنما ظهرت من العدم , يسمع صوتها جواره فجأة :
- هم ذاهبون لمحطتهم الأخيرة , لا تلقي بالاً لهم ..
يقفز من المفاجأة قبل أن ينظر إليها مأخوذًا , يقول لها :
- كنت هناك , ما سيرونه لن يسرهم ..
تقول له :
- من حيث أتيت لا يذهب أحد , قلائل جدًا , كنتم رحلة الضيف والضيف حين يأتي لا يوقفه أحد ..
تضيف وهي تخرج سيجارة وتقول له :
- أشعلها لي ..
 يخرج قداحته وشعل سيجارتها ثم يقرر أن يشعل واحدة لنفسه , تقول له :
- أما هؤلاء فهم رحلتي , وحتى يصلون ساعتهم سيكونون في أمان ..
يقول لهَا :
- ومن أنت ؟
تقول له وكأنها لم تسمعه :
- على هذا الرصيف لم يقف أحد غير الضيف , يهيم في المحطات بحثًا عن ركابه , وإنك لأول بشري يعود , و قد جئت بالنهار معك .
يقول لها :
- وهل عدت هكذا ؟
تتابع وكأنه لا يتحدث :
- لسبب ما تحيا , وإني لرفيقتك حتى الوصُول .
على البعد يظهر قطارٌ قادم من الإتجاه الذي ينتظره أمير , قطار جميل آخر يسير في بطء ليتوقف أمامه , بينما هو ينهض متواثبًا ليقف بانتظار استقرار الباب أمامه وخلفه تسير العجوز , وما إن يتوقف القطار حتى يصعد الراكبان لينطلق مرةً أخرى.

ما إن غادر القطار المحطة الأخيرة حتى شعر أمير باختفاء الشؤم كلية من المشاهد التي يراها حوله ومن ما يشعر به داخله من راحة , فعلى امتداد الطريق على جانبي القطار كانت مروج مختلفة وأنواع متعددة من الثمار وروائح جميلة وأصوات لطيور مختلفة هي أقرب للموسيقى .
ولأول مرةً منذ مجيئه لهذا العالم الغريب تنتابه رغبة في الطعام والنوم ..
ينظر للمتوسلة التي جلست ضاحكةً بجواره ,يسألها :
- أين الذئاب ؟
تضحك وهي تنظر له قائلة :
- ذهبت حيث ذهب مخدومها !
- أولم تكوني مخدومتها ؟
تقول العجوز :
- لا , لكن في عالمي كانت ضيوفًا , ولا أحد يجسر عليّ !
يسألها :
- فمن أنت إذن ؟
تقول وهي تتركه يستغرق في النوم :
- صدّق ما عرفته ..
يجاهد ليبقى يقظًا وهو يسأل :
- متى سأهبط ؟
تقول له :
- عندما تستيقظ ..
ولم يقو أمير على المقاومة أكثر بعد أن شعر بأن شعوره الطبيعي قد عاد إليه , فراح في نوم عميق , تنتابه الرؤى , المتسولة صاحبة التحذير الأول , هي أنقذته من الذئاب , هي ترافقه في العودة , وترافق من سواهُ إلى نهاياتهم , فأي شيءٍ هي ؟
ينتابه حلم جميل بالعودة لشارعه وأصدقاءه ومعارفه , يتخلله كابوس بصورة الضيف الذي يراه أمير مقيدًا بأغلالٍ في الجحيم يصرخ بإسمٍ واحد فقط هو إسمه , هو من عاد بدلاً عنه , هو من سحق فرصته في العودة , يسمع صراخه يتوعد فيضطرب نومهُ ولكنهُ سرعَان ما يعود لهدوءه وهو يشعر بانتشاء وسعادة وراحة مع تبدل الحلم إلى ضوء ساطع يغزو كيانه ويسطع داخله مبددًا كل مخاوفه وكوابيسه , عندئذ شعر بنفسه يستيقظ ..
أول ما سمعه كانت شهقة اخترقت أذنه , بصعوبة يفتح عينيه في بطء ليتأمل الممرضة الواقفة أمامه والتي شهقت ثم نادت :
- أيها الطبيب ؟ , أيها الطبيب ؟, لقد استيقظ مريض الغيبوبة ..
أما هو فنهض واعتدل على فراش ميز أنه في حجرة طبية داخل مشفى لربما هو مشفى عبد الظاهر , وكان أول ما فعلوه ان ناولوه كوبًا من الماء , واول ما فعله أن شربه ..
كان يشعرُ بالطاقة والنشاط , هل هذا نتيجة لرعاية المستشفى أو لعودته من هذا العالم الغريب ..
يفكر , هل كان يهلوس , هل كان كابوسًا طويلاص استطاع الخروج منه ؟ لكن كيف يذكر كل تفاصيله إلى هذا الحد عرف كيف سيتأكد ولكن عليه أولا استقبال سيل التهاني بالعودة من العاملين والزملاء , كما أن عليه إجراء الفحوصات الأخيرة للتأكد أن كل شيءس به ما زال على ما يرام وأن جروحه قد التأمت تمامًا ..
يأتي زميله شوقي سائق إحدى سيارات الإسعاف ويجالسه ساعةً كاملة لكنه ينصرف غاضبًا , يقول لأمير :
- هل أثر الحادث على مخك ؟ أنا هنا منذ ساعة وأنت شاردٌ لم تتحدث كلمتين ..
أما أمير فكان شديد الحيرة , يعرف شوقي جيدًا وهو صديقٌ قريبٌ له لكنه لا يعلم لماذا الآن فقط تزور عقله مشاهد منتظمة لشوقي الذي يسرق المورفين , لشوقي الذي يبيع الدواء , لشوقي الذي يتاجر في البرشام , لشوقي الذي تعمد التأخر في حالات لا تتحمل ثانية من التأخير , لم يستطع فهم المشاهد التي تزور عقله لهذا كان يتطلع صامتًا لشوقي وهو يكاد يسأله :
- هل ما أراه حقيقة أم خيال ؟ , هل أرى ما تفعله حقًا أم أنني جننت ..
تأتي الممرضة مرةً اخرى حاملة بعض الطعام وهي تذكره بموعد الخروج ينظر لها لثوانس فترد في عقله خواطر واضحة يراها فيها في غرفة مجاورة في أحضان ممرض آخر , ويراهَا تتسلل سارقةً أدوية , ويراها تصفع بعض المرضى الغير قادرين على الشكوى ..
يشيح بوجهه في اشمئزاز , وهو يشعر بأن عقله ليس على ما يرام , أنه يتوهم ويتخيل كثيرًا ..
يقول أمير لشوقي الذي انصرف غاضبًا :
- يبدو أن الحادث أثر على مخي !
بعد ساعات من الحياة , أم هو الجحيم ؟ يجد أمير نفسه خارجًا من المشفى لكنه لم يستطع السيطرة على هذا الذي يشعر به ..
كلما التقى أحدهم يرى جرائمه , أم هل يتوهمها ؟
لأيامٍ لم يفهم , ظل يعيش هذه الدوامة وقد بد له أن باستطاعته الفهم , يذكر حورس والضيف و زملاؤه وما حدث لهم , قرر الإتصال بمشفى عبد الظاهر واثنين آخرين في المدينة وهو يحفظ الأسماء التي سيسأل عنها جيدًا , عندما أغلق الخط بعد ساعة من المكالمات عرف أنه رأى ما رآه حقًا ..
جميع رفاقه ما زالوا أحياء ينتظرون الإفاقة من غيبوبة والعودة من عالم هو الوحيد الذي يعرف يقينًا أنهم لن يعودوا منه ..
فكر أن يقتلهم جميعا رحمةً بهم ويتسلل إلى المشافي ليحقنهم أو يكتم أنفاسهم أو يفعل أي شيءٍ آخر فمن حقهم أن يموتوا في سلام ويواجهوا نهايتهم كأي بشري آخر , لربما عدوه مختلاً ولربما حاكموه , لكنه تذكر جرائمهم و تذكر ما رآه فقرر عدم الخروج أو الاهتمام  وأن عليه أن يحسد نفسه على هروبه من هذا المصير .. 
قرر اعتزال البشر لفترات وجلب أغذيته و شرابه وكتبه و كل ما يعنيه على ذلك , لكنه ما إن يلتقي أحدهم مجددًا حتى يشعر بالهم يغزو قلبه والجنون يحكم عقله فلا يستطيع السيطرة على ما يراه من مشاهد صادمة وجرائم لا تُغتفر .. 
فكر أن يبحث بعيدًا عن مكان في الصحراء وعاودته فكرته في الانتحار مرارًا , لكنه إذ يذكر رحلته الرهيبة يعدل فورًا عن القرار..
بعد عدة شهور من العذاب قرر أخيرًا التعايش مع لعنته وصورة حورس تأبى أن تفارق خياله وهو يقول له :
- لكنّ لكل شيءٍ ثمن ..
وقد كان الثمن باهظًا , لعنته أنه لن يكف عن رؤية الشر في العالم 
ومع كل شعور يشعر به وشخص يلتقيه لم يعرف  أمير أبدًا , أحقًا كان أكثرهم حظًا , أم أتعسهم ؟
وهل كان الجحيم أسوأ كثيرًا مما يراه ؟


شكرا لتعليقك