pregnancy

قبل أن يصل القطار - الجزء الأول


رواية - طارق عميرة
 

عندمَا دخل فزعًا من باب القطَار , وقف للحظَات واستدارُ ينظر إلى جانبي الباب والجهة المقابلة من الرّصيف بدَا لهُ في هذا الجو شديد البرودة أنّه لن يجد راكبًا ىخر فقط كانت المقاعد المرئية لهُ في العربة الغارقة في الظلام الليلي على ضوء الرصيف جميعهَا فارغة , بعض زجاج النوافذ مكسور مما يعني أن الجو طوال الرحلة سيكُون قارصًا لدرجة القتل مع سرعة القطَار ..
أخرج سيجارةً واشعلهَا ليختلط دخان نفسهَا الأول بالبخار الخارج من فمه أثر البرُودة , استدار فأجفل , كيف لم يرَ هذه المرأة وهي قريبةُ منه لهذه الدرجة حتى كاد يصطدم بوجههَا الذي حُفرت ملامحهُ في عقلهِ , بتجاعيدها و عينيها الحمراوين الجاحظتين ووجهها العريض حتى ليكاد يبلغ ضعف حجم وجهه رغم أنها قصيرةٌ أمامُه !
قالَت له وهيَ تجرُّ جوالاً متسخًا بينما يعترض طريقهَا للهبوط قبل أن يتزحزح :
- راكب جديد؟  أعطني سيجَارة ؟
سريعًا مدّ يدهُ إلى جيبِه , ناولهَا سيجارة , قالت بصوتها الجاف العجوز :
- أشعلها لي .
بدَا الجو مشئومًا, هذه المتسولة هي الوحيدة التي تشاركهُ العربة , عرفَ أنها ستهبط قبل سير القطار عندما وضعت جوالها خارج الباب ووقفت تدخن السيجارَة , عندمَا همّ بالحركة سألته : 
- إلى أين أنت ذاهب ؟
لا يطيقُ من يتدخلُون في شئون الآخرين , خاصةً إن كانوا لا يعرفونهم , نظرَ لهَا صامتًا ولم يعلّق , قالَت له في سخط وهي ترمي السيجارة بعد أن أنهتها في شراهَة  : 
-   هذه ليست محطتي , لكن لابد من الهبُوط , أنت تعلم هذا القطار ..لا يمكنك أن تظلّ بهِ حتى المحطة الأخيرة !
همّ ان يجاملهَا بعبارةٍ من قبيل القطارات القديمة هكذا , أو يسألها اين ستذهب لكنه آثر الصمت , مع هبوطهَا من العربَة ,بدأ القطار بالتحرك , قالَت وهي تسحب جوالهَا بينمَا القطار منطلق :
- لا تنزل دون أن تترك علامةً على مقعدِك ..
رغب أن يسائلها هذه المرة فعلاً ولكن القطار في ثوانٍ غابَ في الظلام بينمَا أضاءت أضواء شديدة الخفوت في العربَة ..
أوجسَ في نفسهِ خيفةً وغاب في أفكار الضيَاع ولم يمض وقت قليلٌ حتى توقف القطارُ في محطة لم يستطع تبين أي شيء على الرصيف , لم يكُن هنَاك ضوء , ولكنه علم أن هناك راكبًا حينَ سمعَ وقع القدم على أرض القطار المعدنية , إلتفت لصاحبهُ عندمَا اقترب منه ..
هل هي فتاةٌ أم يخيّل غليهِ ذلك ؟ في هذا الوقت ؟! وقفت أمامه وقالت بصوتٍ رقيق يمتزج برجاء ..
- هل تسمحُ لي ؟ تبدُو ملامحك مطمئنة وأنا أخافُ كثيرًا ..
رغم ما يشعرُ به ابتسم وهو يدير بصره حوله في المقاعد الخالية الغارقة في الظلام قبل أن يعيدهُ غلى وجهها متبينًا إن كانت سمرته بفعل الظلام أم أنه يراها فعلاً , قال لها والقطار يعاود الانطلاق من جديد ..
- تفضلي ..
عندمَا جلست أمامه فزع , فقد بدا واضحًا أنها ستتحدث وهو لا يطيق الغرباء , سألته :
- كيف جئت ؟
أجاب :
- تقصدين من أين , لقد اخترت هذا القطار في هذا الموعد كي لا أتحدث مع أحد ..
قالت بصورة أقلقته دون أن تلقي بالاً  :
- راكب جديد إذن .
نظرَ لهَا مستنكرًا , هل يعرف كل من يركبون هذا القطار بعضهم ؟؟ تابعت هي بينما تلقي بصرها إلى النافذة :
- لم تعلم بعد أنه لا أحد يختار هذا القطَار .. إته يختارنا ..
- كلا أنا اخترته وسأهبط بعد عدة محطات ..
ضحكت ساخرةً فظهر الضيقُ على وجههِ , قالت له :
- أنت لا تفهَم , دعني أريدك شيئًا ..
نهضت وهي تجذبه من يده تلقائيًا فشعر ببرودة أطرافها , هل هو الذي امتد الصقيع إلى طرفه أم هي يدها, شدته إلى الباب المفتوح قهرًا .
- ألا ترى أن كل المنشآت على الطريق تبدُو بعيدَة ..
- نعم وماذا في هذا , ليست بعيدةً جدًا ..
- هذه صورة , لا توجد منشآت , لا يُوجد طريق , بعد قليل سترى نفس المشاهِد بنفس الأضواء التي ليست اضواء , يصنعهَا عقلك وسينتهي خيالهُ ليبدأ من جديد ..
ركزّ بصرهُ قليلاً ليفزع , كيف يبدُو مبنى المحطة التي انطلق منها منذ ساعة واقفًا على جانب الطريق كأنه يمر بجوارِه , رغم الهواء الجليدي أخرج راسه محاولاً النظر أسفل العربة هل يسير هذا القطَار لكن زاوية الرؤية لم تسعفه , لا بد أن ينام على بطنه على أرض القطار , أشعل سيجارة ونفث نفسها الأول بتوتر شديد وخوفٍ أشد ..
سألهَا :
- إلى أين يذهب هذا القطار .
قالت وهي تعُود إلى مقعدهَا :
- الآن بدأت تفهَم
كرر السؤال :
- إلى أين يذهب هذا القطار ؟
غيرت الإجابة بينما تثبت عينيها في عينيه :
- يومًا ما سنعلَم ..
للحظَات ظل ينظر لهَا مصدومًا قبل أن يشيح بوجههِ غير قادرٍ على الفهم أو الكلام , أما هي فتابعت النظر إليه قبل أن تمد يدًُا تربتُ على ركبته وتسأل :
- كيف جئت ؟
نظرَ لهَا وهو يفكر هل يصمُت ام يتحدّث , فكّر في إجابة لسؤالها و أشعل حيرتهُ أنه يجد صعوبة شديدةً في التذكر , عندمَا فتحُ فمهُ بالإجابَة كان قد بدأ يتذكرُ كلّ شيء ..
قال لها : 
- كانت هناك فتاة , وحيدةٌ هي , وكانوا اربعة أوغاد , سكارى هم , وكنت مكتئب المزاج غاضبًا أذهب للانتحار غيرَ أني لا أطيق الرفقة في هذه اللحظة المقدسَة , كانوا مزعجين في حصارهم لها وأنا أكره من يزعجني حين أنتحر , قررت تأجيل الانتحار خمسة دقائق عبأت  يديّ وجيوبي بالحجارة قبل أن أقترب منهم , أخرج أحدهم مطواة في طريقه لاعتراضي ليجد حجرًا بحجم قبضة يده بين عينيه , يصرخُ قبل ان ينهار أرضًا ليتألم بينما ألقي الحجر الثاني بجمجمة آخر فينثني مبتعدًا ممسكًا براسه التي سالت دماؤهَا على وجههِ ..
كنت ثابتًا لم ترمٌش عيني فلم أراهم إلا مغامرةً اخيرَة أخوضها مستمتعًا بما تبقى لي من هذا الشعور .
لفت هي ذراعيها حول صدرها بشدة محاولة تدفئة نفسهَا أكثر وولكنها تعرف أن هذا بلا جدوى , القطار يكاد يكون قطعة من الثلج تقبع بداخلها مع هذا الوافد الجديد , كانت تنظر له بتركيز وكانها تحفظ كل حرف , تابع هو :
- أخرج أحدهم مسدسًا من نوع الخرطوش الذي يصنعونه في مصانع الحدادة وتفترش رصاصته لتصيب الضحية في كل أجزاء جسمه , عندما هم بالإطلاق كنت قد قذفت الثالث حجرًا كبيرًا في مؤخرة رأسه ليفقد توازنه على الفور بينما الرابع يضع فوهة مسدسه صوبي على مسافة سنيمترات في لحظة إطلاقه كنت أقابل رأسه بحجرين بين يدي أضمهما على راسه بمنتهى القوة , لم أر ما حدث له فقط أفقت في المشفى .
أخرج سجائرهُ وأشعل واحدةً وقد تذكر شيئًا , نظر لها سائلا : 
- بالمناسبة اسمي  أمير ما اسمك ؟
- نورا 
- ألا يُوجد من نبتاعُ منه طعامًا أو سجائر ؟
تنظر للسيجارة المشتعلة بيده وتقول :
- هل أنت جائعٌ حقًا .. 
رغم أنه لا يذكر أنه التهم طعامًا لكنه لا يشعر بأي جوع , نظر لها دون رد فتابعت :
- لن تنفذ سجائرك , هناك رحمة هنا رغم كل شيء ..
سألها :
- ما هو هنا ؟ ما هذا القطار ؟؟
قالت له :
- أنت لم تخبرني ما حدث بعد أن أفقت بالمشفى وما الذي كان يدفعكُ للإنتحَار ؟؟
عادَ يحاول التذكر قبل أن يقول :
- لا أذكر جيدًا , أذكر ضباطًا من الشرطة بعد الجراح الذي يستخرج الطلقات , اذكر استجوابات و قيد يحيط بمعصمي متصل بقائم السرير والكثير من التخدير , أذكر تسللي في لحظة بعد معالجة القيد , اذكر انني هبطت مختبئًا من سلم الطواريء , اذكر أنني خرجتُ منهُ وأنَا أعرفُ أن وجهتِي هي هذا القطَار !
تنظرُ له غير مصدقة , وتكرر سؤالاً في تعجّب :
- هكذا وصلت هنا ؟!!
- نعم كما أذكُر !
قالت له :
- أنت غريب , لا تعرف كيف نأتي إلى هنا , لأول مرة أسمع هذه القصة لكنني لا أملك سوى تصديقك .
تشيح بوجههَا لزجاج النافذة التي نجلس بجوارها فيلمح في إنعكاس صورة عينيها حزنًا , قالت له :
- هل تعرف كيف أتيتُ أنا إلى هنَا ؟
قال بلهفة :
- كيف ؟؟
قالت :
- لا تهمّك الكثير من تفاصيل حياتي , ربما تعرفها فيما بعد حين نلتقي مجددًا , ولكن سأحكي لك باختصار , لم أر أبي فقد مات قبل أن يكتمل وعيي , كنت أصغر بناته بالإضافة لثلاثة أخريَات تكبرني أكبرهن بعشرة اعوام , أما امي فوجدت نفسها الأم والأب , الحائط والمنزل , كان بإمكانها أن تتزوج أو تغامر لكنك دائمًا تراها راكعةً في جوفِ الليل تنشد القوة والستر من الله .
تصمت نورا لحظة وتتابع :
- لن أخبرك عن التفاصيل المادية لحياتنا , فالله أعلم كيف كانت تدبر أمي أي شيء في أي وقت لكننا كنا نعرف أننا فقراء , ولولا وجودها الكريم لكنا نتسول أو نقضي ليالٍ حمرَاء أو نُبَاع في أسواق الأعضاء البشرية , لكن سأخبرك أن مع بلوغي السابعة عشرة كانت كل عظام أمي قد تآكلت , العمل لتوفير كل شيء لفتياتها الأربع كان بلا رحمة , وقد استنزفتها مشاكلنا حتى لم يبقَ بعينيهَا بصيص للفرَح , حتى حين تزوجت شقيقتي الكبرى لم تفرَح أمي فقد كانت تعلم أنها تدخل حياتها زوجية فقط لتخفف العبء عنها وليس المادي فقط , بل المجتمعي أيضًا  لهذا قبلت برجلٍ لو كان القرار حرًا لطردته من اللحظة الأولى ..
تلمحُ ألمًا في وجههِ فتقول :
- لا تشفق عليّ , هذا أكثر ما يقتلنا ..
يبتسم بينما تتابع هي :
- بعد زفاف شقيقتي الكبرى ولتطورات في حياتها الشخصية تدهورت صحة أمي , أمي التي صمدت أمام الجبال من أجلنا ندمت عندما سمحت لإحدانا بإلقاء نفسها في جحيم , هكذا ذبلُت , هكذا تدهورت , انتشر الوجع وانتقل من جزء لآخر في النهاية أعلنت  إحدى الكليتين عن فشلها كما أنها تجر الثانية جرًا , ليبدأ دوري هنـ..
يقطع حديثهَا صافرة القطار المتضخمة تعلن تهدئته السرعة تمامًا ليتوقف فتصمت تمامًا وترتبك وهي تنهض مترددة , يسألها :
- محطتك ؟
تجيبه وقد انتابها ذعرٌ شديد :
- لا توجد محطات , المهم أن أنزل قبل أن يصل القطار إلى المحطة الأخيرة .. 
- وهل المحطة الأخيرة هي القادمَة ؟
تنقل بصرها في تردد بينه وبين باب القطار الذي وقف أخيرًا :
- ماذا لو كانت هي ؟
سألها متعجبًا : 
- نعم ماذا لو كانت هيَ ؟
- لا وقت للشرح .
تقولهَا نورا وتتجه صوبَ الباب لكن القطار يتحرك قبل أن تصل للباب لتكمل طريقها للمحطة التالية وفي عقلها تصرخ اللعنة لماذا لم تجلس على عتبة الباب منذ البداية !
عندما عادت لتجلس أمامه قالت :
- كان الأجدر أن تهبط معي , الآن سنظل نبتهل ألا تكون القادمة هي النهاية !
سألها :
- واين كنتِ ستهبطين ؟! اي محطة هذه ؟
- لا أعلم , كل المحطات تشبه بعضها , ستهبط للرصيف محاولا الهبوط منه فلن تجد له نهاية , فقط يمكنك أن تعبر الجهة الأخرى وتستقل اي قطارٍ آخر عندما يعبر بجوارِك ..
يكرر سؤاله الاول :
- ما هي المحطة الأخيرة إذن ؟؟
- قليلون هم من وصلوا إليهَا , لم يعودوا لنعرف .
ينظر أمير لوجه نورَا الاسمر وعقله مشغول , صحيح أنه يشعر بالكثير من الضباب داخله ولكنه يجد ما يكفي ليفكر , يسألها والصورة تزداد غموضًا أمامه :
- ما الذي يحدث بالضبط ؟
- لا أعلم , دعني أكمل لك الحكاية , ولكن إذا توقف القطار مرةً أخرى سنهبط سويًا هذه المرّة ..
تردد قليلاً قبل أن يومأ لها برأسه , زفرت ثم قالت :
- بدأ دوري أنا وشقيقاتي عندما سقطت أمي فريسة للمرض , لم تعد نفقاتنا وحدها تكفي بل زاد عبء العلاج والغسيل وكما قلت لك نحن نمقت رؤية الشفقة , هكذا عملنا جميعًا كلٍ في مكانٍ مختلف ومجالٍ مختلف , أنا عملت ممرضة بإحدى المستشفيات لأن هذه دراستي , هناك ايضًا كان يعمل باهر , طبيب شابٌ وسيم لم يستطع إزالة عينيه عني كلمّا رآني , لكنه لم يعلم أنني باب مغلق داخله أسود كالقبر , أن في ذهني من الهم ما يصرفهُ عن أي شيء , أن اليوم موعد للغسيل وأنا سأرافق أمي لأساعدها وأرى آلامها المتكررة كل أيام مع رفضها القاطع أن تتبرع إحدانا لها بإحدى كليتيها , كانت تعتذر عن إرهاقها لي عندما أقف بجوارها وقت الغسيل , أمي التي أضاعت كل أيام حياتها من أجلنا !
تصمت لوهلة وتتابع :
- لشهورٍ تجاهلتُ باهِر , تدهورت حالة أمي وكثرت زيارتنا للأطباء ونقلنا السكن إلى طابق أرضي بعد أن عجزت عن المسير وصرت أستعين بالجيران أو السائق أو المارة كلما أخرجتها وفي عملي لا يهدأ عقلي أبدًا إنشغالا ومرارًا فكرت في تركه لولا أنه مصدر دخل رئيسي قد لا نأكل من دونه , تعرف بالتأكيد أن ما أجنيه وشقيقتاي لا يكفي بالكاد فواتير علاج أمي دون أي مصاريف أخرى , في وقت الشقاء ذلك كان باهر يلح في سؤاله ونظراته واهتمامه , يغازلني كثيرًا ويواسيني كثيرًا , ورويدًا رويدًا بعد أن كنت أنظر أرضًا عندما يجمعني العمل به صرت أبحث عن وجوده وأبادله النظرات والكلمات لأسقط في طريق لم يكن هذا وقتهُ , بعدما كانَ شغلي أمي والعمل صارَ أمي والعمَل وباهر لكن الأمور لم تسر كما يجب , بالتأكيد إزداد مرض أمي وقلّت استجابتي معها , هل هذا لانشغالي بباهر بعض الوقت أم لأنني اكتفيتُ من خدمتها لا أعلم , لكنني أذكر أنني أضعتُ الصبر كلّه عندما بدأت في التأفف والتجاهل والتباطؤ في ما يتعلق بأمي .
تنظرُ له منتظرةً أي تعليقُ ولكنه بدَا منتبهًا صاغيًا , تابعت :
- ماتت أمّي , لكن ما فعلتهُ معهَا لم يمُت , إهمالي لهَا لم أغفرهُ لنفسيِ قط ولن أستطيعُ أن أفعل , عندما ماتت كنت في شقة باهر , كنت في أحضانِه , عندمَا دفنَت كنت أحتاج للاغتسَال , كان الذهول باديًا على وجهِي , صحيح أن عبئًا كبيرًا انزاح عن كاهلنَا لكن أعباء حلت محلّه , ماذا سأفعل وشقيقتاي ؟ وشقيقتي المتزوجة التي يقول كل جزء منهَا أنّها لم تعُد تتحمّل , حدثتُ باهِر مرارًا ليشاركني ولكنه تجاهلني فشعرتُ بحقارة نفسِي .
بدأت في الانتحاب , قال لها مهدئًا :
- لا بأس , لقد مضى ذلك , تماسكي ..
مسحَت دموعًا وهميّة عن وجههَا وقالت :
- لم يجب باهر بعد ذلك وحين رأيته في المشفى حدثني بجفاء , أذكر جيدًا أنه الوحيد الذي لم يعزني لهذا لستُ نادمَة لما فعلتهُ به , خاصةً عندما رأيته مقاربًا لتلك الطبيبة الشابة التي اسمها ياسمين , وياسمين هذه قطعةٌ من القمر , شديدة النقاء والطفولة , وشديدة الجدية كما أنها من الأطباء المهرة , لم أستطع أن أكره ياسمين فهي أفضل ما يمكن , لكنني كرهته بكل جوارحِي , كرهتهُ حتى أنني سممتهُ , سممتهُ وجلسوا جمًيعًا في المشفى ينتظرون النيابة والمباحث بينما هبطت أنا تنتابني مشاعر متضاربة في صواب ما فعلته ..
صمتت طويلاً هذه المرة حتى أن أمير سأل :
- وبعد ؟ ما الذي حدث ؟!
قالت بعد هنيهة :
- لا شيء , كنت شاردة الذهن , لقد أزهقت للتو حياة إنسان أنا التي طيلة حياتي كنت أخشى ان أجرح شخصًا بكلمة , هل كان يستحق؟ هل كنت أستحق ؟ كل هذا لم يقدر على إزالة صورة جثة أمي الميتة من ذهني , وأنا أشعر أنني السبب , على الأقل كان يمكن أن أكون بجوارها , هل كانت تريد أن تقول لي شيئًا , تقول شقيقتي الأكبر مني مباشرةً أنها نادت باسمي مرارًا في وجَع , أنها أرادت رؤيتي أم تراها كانت تراني فعلاً , لا أعلم لكنني كنت اعلم أن الحزن تجاه أمي لن يزول قط , حتى مع مقتل باهر , لم يكن هذا سريعًا , كان هناك استنزاف لكل خلية حيةٍ في جسدي في كل ثانيَة .
تزفر قبل أن تتابع :
- بعد أن سممت باهر , هبطت من المشفى لكن كما قلت لم يكن عقلي معي كان مشتتًا وبشدة , لم أنتبه انني اقطع الشارع بالعرض , الشارع الذي كانت تعبره سيارةٌ مسرعة لم تجد سوايَ أمامهَا , هل خيل إلي أن اشلائي وصلت أعلى الشجرة على الجانب أم أن هذا حدث فعلاً , لا أعلم , كل ما أعلمه أنني غبتُ عن الوعي , عندمَا أفقت كنت صحيحةً تمامًا ,وكنت استقل هذا القطار للمرة الأولى ..
سألها :
- ثم ؟!
- لا شيء , من وقتها وأنا هنا , لا زلت أنتظرُ القادِم ..
يسهم قليلا ثم ينظر لها فزعًا ويسأل :
- صدمتك سيارة ورأيت أشلاءك ؟
- خيّل لي ذلك !
يهز رأسه وكأنه غير قادر على الاستيعَاب ويغمض عينيه ويفتحهما :
- تقصدين أنّك كـ..
تقاطعه :
- لا أقصد شيئًا لقد حكيت ما حدث لك كما حكيته للجميع ..
- الجميع ؟!
- بالتأكيد لا تظن أن القطار والطريق صُنعَا خصيصًا من أجلنا , سوف تلتقي كثيرين ولكن علينا أن نهبط قبل أن يصل القطار للمحطة الأخيرة ..
قال لهَا :
- أنتِ تُثيرين جنوني , وكيف أعرف , أنا لا أفهم شيئًا ..
قالت لهُ :
- حتمًا ستفهَم ..
يغرقان في الصمت والظلام الذي تبدده انعكاسات أضواء عبر الزجاج المتبقي للنوافذ , أخيرًا يهديء القطار من سرعته , تُمسك نورا بيد أمير وتقول له :
- هيا بنا لا بد أن نقف على الباب ,القطار يتحرك مسرعًا وكأن الشياطين كلها تجري خلفه ..
لا يكادا يستشرفان الباب حتى يلمحان انوارًا ساطعَة على البعد , تقول نورَا لأمير في خيبة :
- يا إلهي , لن نستطيع الهبوط هنا , سننتظر ..
- لماذا ؟
- هذه الأنوار , إنه الضيف ..
- الضيف ؟؟!!!
تقول له :
- نعم الضيف , حارس هذا القطار , يصعد يوميًا من محطته التي نعرفها بأضواءها الساطعة ورؤوس من جرأوا على الهبوط هناك المعلقة على أعمدة الرصيف ..
هل يشعر بالخوف ؟ يتساءل امير وإلا لماذا وقف شعر رأسه , ما هذا الغموض ؟ ما هذا الجحيم ؟ 
لا يمهلهُ بالهُ فرصةً للرد , ففي ثوان يجد القطار يتباطأ عابرًا بقطار من الرؤوس المعلقة على عمدان حديدية , قبل ان يدخل في قلب النور ويتوقف ..
لم ينزل أمير كما قالت له نورَا عادَا إلى مقعديهمَا ينظرَان في حذرٍ للراكب الجديد الذي صعد يمشي بخطوات شديدة البطء ..
مع سيره ارتجفت الأضواء , تظاهر بأنه لم يرهمَا وعندما جلس بعدهما بعدة مقاعد فقط إستقرت الأضواء الخافتة وإنطلق القطار ليعبر الأضواء الصاخبة التي لا تتناسب مع هيئة القادم أبدًا , ذلك الذي يلف عمامةً تكاد تخفِي معظم ملامِح وجهه بينمَا أخفى خفوت الضوء والظلام ما تبقى , لهذا لم يريَا سوى الهيكل الخارجِي للجسد الممشوق الملفوف بعباءة سوداء بلون العمامة .. التي تتدلي لتبدو وكأنّها ملتصقةٌ بهَا .
أما نورا فقالت همسًا لأمير : 
- لا تنظر له حتى المحطة القادمَة , أرجوك تجاهله .
بينما كان أمير يثبّت عينيه على ذلك الغريب , نهض متجاهلا ما قالته كأنه لم يسمعهَا واتجه صوبَ الرجل الجالس وهو يخرج علبة سجائره , لم يكد يصل له حتى قال أمير:
- هل معك قداحة أو كبريت إذا سمحت ؟ 
بوجه لا يتبين منه سوى عينان واسعتان مخيفتان تحركتا تجاهه مع العمامة في الضوء الخافت , صمت الجالس طويلا وهو يطيل النظر حتى هم أمير بالعودة وهو يلعن الغرباء اللذين لا يردون حين سمع الصوت العميق يرد في بطء:
- أنت لا تبحث عن قداحة , أنت تبحثُ عن الحقيقَة , القداحَة في جيبكَ الأيسر !
 لثوان تبادلا النظر وظل أمير واقفًا قبالتهُ قبل أن يخرج قداحته ويشعل سيجارة لنفسه , يجلس في الجهة الأخرى داخل القطار على بعد ممر ومقعد من الضيف , يسأل وهو ينفث نفسه تجاه النافذة المشروخة بجواره بينما نورا ترتعد في مكانها لا تجرؤ على النظر لهمَا :
- هل تعرف المجهول ؟
يجيبه الضيف بعد صمت وكأنما يفكر جيدًا فيما يقُول:
- ألا تعرفني حقًا ..
ينظر أمير نحوهُ ويقول :
- لم يسرني ما عرفته ..
يسأله الضيف :
- فماذا تُريد ؟
- أن أعرف , إلى أين أنا ذاهب ؟ 
يقُول الضيف :
- ستعرف , عندما تصل ستعرَف ..
- أوتعرفُ أنت ؟
- بالتأكيد .
- اين سأصل ؟
هل يضحكُ الضيفُ أم  يسخر منه ؟ , قال :
- محطتك الأخيرة ..
يسأل أمير متعجبًا :
- أوليست الموت ؟
يقول الضيف :
- ربما أسوأ !
يسأل امير :
- أرأيتهَا ؟!!
يقول الضيف وهو يحول كل رأسه تجاهه :
- في كل يوم , في كل ساعة , إنني هنَاك الآن ..
يقول أمير وقد أيقن بالضياع :
- كيف؟!!! هل أنت ساحر , ثم هناك من يقول أن من يذهب لا يعود ..
يقُول الضيف :
- هذا لا يعنيك , إن من يذهب لا يعُود ..
يسأله مكررًا :
- وأنت ؟؟!!!
لا يرد الضيف بينما تكُون سيجارة أمير قد انتهت , يعود لمقعده أمام نورا التي كانت تمُوت ارتعادًا , قال لهَا :
- رجلٌ غريبٌ لا أكثر , ثم إنه يقُول أنّه يذهب للمحطة الأخيرة كل يوم !!
تحاول السيطرة على ارتجافتها , تقُول لهُ بصوتٍ خافِت :
- بالطبع أيّها الأحمق , إن مهمتّه كل يوم إحضار أحد الهاربين وإيصاله للمحطة الأخيرة, أحيانًا نكون جميعًا على الأرصفَة ..
يسألها في شغف :
- صحيح فما الذي يدفعك لركوب القطار والمراهنة مرةً أخرَى على عدم الوصول لهذا الكابوس ؟
تُجيبه بسؤال :
- هل تعرف من يقُود القطَار ؟ 
- كلا ..
- وأنا أيضًا , كأنّه رجلٌ لكنّه ليسَ كذلك , جسدهُ جسدُ رجل لكن وجهه وجه ضبعِ ضاحِك .
يقول متشائمًا :
- ما هذا العبَث ؟!!..
- لا تُحاول أن ترَاه , فستكره تلك اللحظة كثيرًا ..
يسألها :
- لم تخبريني , لماذا تصعدين للقطار ما دام يمكنك البقاء على الرصيف ..
- من قال هـ
يقطع عبارتها صافرة القطار المتضخمة المنطلقة لتعلن الوصول لمحطة جديدة , تهب نورا ناهضةً وتقُول لأمير :
- هل ستأتي معي أم لا ؟
لا تنتظر إجابته بل تتجه صوب الباب مباشرةً بينمَا يتبعهَا هو , ينظر للظلام الذي تبدده المباني البعيدة التي يعرف الآن أنها من خياله , يبطيء القطار من سرعتهِ ويدخل إلى الرصيف الذي لا يحوي شيئًا إلا أعمدة الإنارة الخافتة والمقاعد اللاسمنتية وزيرًا عتيقًا للماء , اللعنة لم الإضاءة خافتة لهذا الحد الذي يجعل الرؤية عسيرة كما أنه لا يتركه للظلام الدامس , لم يكد القطار يتوقف بجانب الرصيف حتى هبطت نورا وتبعها أمير ..
لم يكادا يسيران خطوةً واحدة جوار القطار حتى لمحُوا القادم من اقصى الرصيف الى جهة القطار ليظهر في الضوء وهو يعدُو فزعًا , يلمحهم فيصرخ دون أن يتوقف وهو يقفز إلى داخل القطار  :
- اركبوا, إنهم هنا !
مع عبارته يتحرك القطار ويبدأ في مغادرة الرصيف بينما تلتفت نورضا له بفزع وتهتف بأمير :
- لا بد أن نعود , اقفز ..
وفي لحظة واحدة كانا يتزاحمان دخولاً على باب إحدى العربَات , جلست نورَا على أحد المقاعد تلتقط أنفاسهَا , أما أمير فكان ينظر في فزع للضيف الجالس في العربة , في ذات المقعد , رغمَ انهما مشيا للخلف وركبا في عربة تالية بل على مسافة بالتأكيد إلا أن الضيف هنَا , لكنه لم يكن وحدهُ فزعًا , لقد كان فزعُ الوافِد الجديد أشد كثيرًا .
بعد أن التقط الوافد الجديد أنفاسه , سار بالعربة ببطء عابرًا من جوار الضيف قادمًا إليهمَا في حذر , تبادل النظر مع نورا التي نهضت وجلست جوار أمير وأمسكت بذراعه خوفًا بعد أن كانت تجلس قبالته , قدّر أمير أنهما على معرفةٍ سابقة وإن لم يستطع التيقُن من هذا , سأل الوافد مباشرة :
- من هم اللذين كانوا هناك ؟ مِن مَن كُنت تهرُب ؟!
يجلس الرجل في مربع المقاعد الذي يقابلهم وهو يعطي ظهرهُ للضيفِ وبدَا جليًا أنه يقاوم الالتفات لهُ بإرادة حديدية , يقول وهو يرفع بصرهُ للاعلى وكأنما يغمز إلى الضيف :
- لم أعلم أنني سأنتقل من سيءٍ لأسوأ !
 ينظُر أمير للضيف ثم ينظر للرجل ويقول :
- ليس سيئًا جدًا , إنّه مسل ..
- في إحدى المحطات لن يكون مسليًا , سيمسك بأحدنَا أو سيقودنَا جميعًا للنهاية ..
يسأله أمير :
- لم تخبرني من كانوا هناك ؟ من اللذين جعلتنا نصعد لنتركهم ..
يجيبه في دهشة :
- ألا تعرف ؟ هل أنت راكب جديد ؟ إنها الذئاب , الذئاب الحمراء ..
يسأله أمير :
- ذئاب حمراء ؟؟ لا أفهم ..
يقول الرجل له :
- ذئاب حمراء , ما الغريب في ذلك ؟ هل تعرف الذئاب ؟ إنها ذئاب بلون دمك وعينيها بلون النار المشتعلة , قطيع يجوب الأرصفة بحثًا عنّا , إما أن تركب هربًا أو تتمزق جثتك بين أنيابهم وتظل روحك معلقة غير قادر على الموت ..
ينظرُ جهة نورا ويهتف :
- أخبريه يا فتاة ..
يمتقع وجهها ولا ترد بينما يزفر أمير :
- يا إلهي , ما هذا الكابوس ؟
يقول له الرجل :
- لا تبدُو خائفًا لهذا الحد ..
يرد أمير :
- لست خائفًا , ربما أنا متردد , لكنني أمقت الرحلات التي لا أعرف نهايتها , أنا كنت أنهي حياتي كيف أعيش الآن غير قادرٍ على الموت؟!
يضيف بعد صمت سائلاً الرجل :
- ما هو اسمك ؟
- هل تعرف أبراج عبد الظاهر؟ ومصانع عبد الظاهر ؟ أنا عبد الظاهر وأنت ؟
- أمير ..
ويسأل متعجبًا :
- أنت صاحب ربع البلاد تقريبًا , ما الذي جاء بك هنَا ؟
في خوف يتلصص عبد الظاهر النظر إلى الضيف الجالس في مكانه صامتًا , ينظر لنورا التي كانت تنظر إليه لكن عندما التقت عيناهما أشاحت بوجهها على الفور , يقول له عبد الظاهر :
- سأحكي لك للمرة المائة , أنا عبد الظاهر , لا يوجد شيءٌ لا أتاجرُ به , لا توجد مدينة لا أمتلكُ فيهَا شارعًا على الأقل , لا يوجد مصنع إلا ولي حصةٌ به , أنت تفهم العمل وظروفه ومنافساته ..
يقُول له أمير :
- كلا لا أفهم , لم أكن عبد الظاهر من قبل !
يتجاهله الرجل ويتابع :
- أنت تعلم معارك العمل , لا أدعي أنني كنت شريفًا جدًا لكن أخطائي كلها اقتصادية , قد أنفق لكي لا يحصل عادل على صفقة الأرز, قد أنفق كي لا تلتزم الشركة باتفاقها مع ياسين , لكنني لن انفق لأؤذي منافسًا او غريمًا لي لهذا لا أفهم حتى الآن ما حدث .
يخرج أمير سيجارة ويشعلها ويناول عبد الظاهر واحدة فيأخذها معه , يقول له :
- يا لك من محظوظ , قليلون من جاءوا هنا بسجائرهم , أنا لم أحمل السجائر في جيبي قط كان هناك من يحملها لي أو في علبة على المكتب ..
يهز له أمير رأسه , يشعل عبد الظاهر سيجارته , يقول :
- كانت ثروتي تزداد يوميًا , وأملاكي تتسع , ونفوذي يتضاعف , وعلاقاتي تكثُر وتعلو بين كثير من الوزراء من كل مكان و كثير من الشركات و كثير من الموظفين وكل المستهلكين بعدد من المنتجات ..
يتحسر :
- لماذا أتذكر هذا الآن , ذات مرة كانت هناك صفقة , إحدى الشركات سعت لها وانتظرتها لأعوام وكان لها مزايدة , عرضت رقمًا لم يجرؤ أحد على عرض نصفه وإضافة لما أملكه من تلك البضاعة صرت أحتكر هذه تقريبًا , لا اعلم هل هو مدير هذه الشركة أم آخر لكن غالبًا هو , لأن هذه الصفقة كانت الأخيرة .. 
يلتهم أنفاس سيجارته , يقول :
- بعدها بساعتين كنت أهبط من سيارتي وسط حراستي للغداء في مكان أملكه , لكنني لم اصل للباب , لا أعلم عدد الرصاصات التي تلقيتها لكن أعتقد أنني أحصيت سبع جروح عندما أفقت لدقائق في غرفة في مشفاي الخاص , أم هل كنت أتوهم ؟ عندما أفقت بعدهَا كنت راكبًا في هذا القطار العجيب صحيح البدن ..
ينظر أمير لنورا ويقول لها :
- نحن موتى إذن , أنا أصبت , أنت أصبتِ في حادث , عبد الظاهر أصيب برصاصات ..
يهتف الرجل :
- السيد عبد الظاهر , أنا في عمر والدك !
- لستُ موظفًا لديك , وإنس هذا الترف , كل ما يحمل إسمك الآن ينتفع به آخرون .
ثم يسأله :
- هل نحن موتى إذن ..
يهم عبد الظاهر بالإجابة إلا أنه ينتفض فزعًا عندمَا تأتي الإجابَة من خلفه :
- الموتُ رحمَة , لا يستحقهَا من يركبُون هذا القطَار ..
تساءل أمير كيف أتى الضيف إلى المقعد خلفهم مباشرة دون أن يسير في القطار , دون أن يلمحه أحد ؟ هل اختفَى وظهَر ؟ , يقول متحديًا :
- لكنه نهايةُ كل شيء وسيحدث عاجلاً أم آجلاً حتى وإن كان في المحطة الأخيرة ..
كانت نورَا ترتجف , أما عبد الظاهر فيبدُو كمن ابتلع لسانه , كما أن ملامحه تشي بالفزع , يضع الضيف يده على كتف عبد الظاهر ويقول بصوته العميق :
- الخوف جيد , عندمَا نصل ستعرف أنك الآن تعيش لحظَات سعيدة ..
ويدير وجهه المخيف الذي يختفي في العمامة صوبَ أمير ونورا وهو يضغط بيده على كتف عبد الظاهر و يقُول :
- لستُم أبرياء , الكل يتظاهر بذلك لكن عندما نصل إلى المحطة الأخيرة , لا أحد يعُود ..
عندما صرخ عبد الظاهر من الرعب كان الضيف في مقعده الأول كأنه لم يتحرك قط , أما ما أفزع أمير وجعل عبد الظاهر يصرخ لم يكن ما قاله الضيف , كانت يده التي وضعها على كتفه , لم تكن يدًا بشرية , ولم تكن لها أظفار , فقط مخالب حادة طويلة ..
عندمَا تمالك نفسه قال عبد الظاهر لأمير :
- سأهبط في المحطة القادمة , الموت بأنياب الذئاب أفضل من هذا الفزع , وقُوع البلاء لا انتظارهُ كما يقُولون ..
وعندما تمالك نفسه رد أمير على عبد الظاهر :
- ربما أهبط معَك .
ينظر لنورا الجالسة بجواره كأنما يستشيرها , لكنها لا ترد , أين ذهبَت حماستهَا للهبُوط , ينقل بصرهُ بينهَا وبين عبد الظاهر وينظر جهة الضيف فيجده جالسًا كما هو .
تقول له نورَا همسًا :
- لن نهبط معه ..
يسألها أمير :
- لماذا و هل تعرفينه ؟ 
تقُول له :
- كان مالكًا للمشفى الذي كنت أعمل به وهو ليس بريئًا كما تظن ..
- لا أفهم ..
- وأنا لا أعلم , فقط أنت حرٌ بالذهاب لكنني أختار رفقة الضيف على الهبوط معكما ..
يسألها متعجبًا :
- كنت تحترقين من أجل النزول , والآن ما الذي حدث , ماذا لو كانت المحطة الأخيرة هي القادمة   ..
لا تجيبه نورا تنظر جهة الزجاج , بينما يعمه الصمت هو وعبد الظاهر ويغرقان فيه فترة من الوقت , ينتبهَان مع صافرة القطار التي تعلن الوصول لمحطة جديدة , يثب عبد الظاهر جهة الباب وينظر لأمير دون أن يتحدث , أما أمير فقد استقر أنه سينتظر المحطة التالية مع نورا , هناك احتمال كبيرٌ ألا تكُون المحطة الأخيرة ..
عندمَا وقفَ القطَار على الرصيف , قال عبد الظاهر لأمير قبل أن يهبط :
- أنت أحمق , أنت لا تعرف حقًا من هي ..
يهبط من القطار بينما يصعد راكب آخر من نفس الباب , ينطلق القطار على الفور بينمَا يسأل أمير الراكب الجديد :
- أهناك ما أفزعك أيضًا ؟
يرد الراكب :
- كل شيء هنا مفزع ولكنني مللتُ السير والإختباء , ثم من أنت ؟!
- أنا أمير , وأنت ؟
كان أمير قد قرر ان يقضي وقته هنا بأي طريقة لكن ليس بهدف التسلية , سيعرف كل ما يمكن حتى يجد حلا للخلاص والخروج من هذا القطار , لا بد أن يعود من هذه الرحلة , لكن كيف ؟ وما هي , ينصت لإجابة الراكب الجديد بينما نورا مستمرة في الصمت :
- أنا سعيد , هذا هو إسمي لكن حياتي لم تكُن كذلك أبدًا ..
يسأله أمير : 
- لماذا تقول ذلك ؟
في تلك اللحظة فقط ينتبه الراكب الجديد سعيد إلى وجُود الضيف في العربَة , لثوان لا يقدر على النطق وهو ينقل بصره بين امير ونورا و يتعجب هدوءهمَا , يقول له أمير :
- دعك منه , هيا اخبرني ..
- كيف ؟! لماذا لم تخبرني أو يخبرني من هبط أنه هنَا , لم أكن لأركب .
- لماذا ؟
- إنه الضيف , قليلون هم من رأوه ولم تكن رحلتهم الأخيرة ..
ينظر له أمير ثم يقول :
- دعك منه , أخبرني عن حياتك , وكيف جئت هنا ؟
- ولماذا أخبرك ..
- لا بأس إذا لم تكن في حاجة لرفقة ..
يبدو التردد على وجه سعيد قبل أن يتحدث :
- منذ الصغر وأنا أعمل نجارًا , حتى أثناء دراستي التي أتممت فيها التعليم المتوسط , لكن هذه المهمنة رغم أن دخلها جيد لكنه محدود وأنا كنت أطمح لما هو أكبر لهذا مع الوقت افتتحت ورشة كبيرة ثم فتحت له فرعًا آخر يحويان أثاثات تقدر بالملايين , لكن هذه ليست المشكلة , زوجتي التي كان يتمناها كل الشباب لكنني كنت أجيد الإدخار إستطعت أن أتزوجها عندما أتممت عشرين عامًا حتى أنها كانت تكبرني بعامين.
يصمت قليلا وكأنما يفكر هل يصمت أم يتابع , تستحثه نظرات أمير فيكمل :
- من الأيام الأولى  علمنا أننا لن نتوافق , لا تستطيع أن تفهمني وتزعم أنني لا أفهمها , تقول دائمًا أنني أرى فيهَا جسمًا فقط , لكن لم أتوقع أنها تكن لي هذا الحقد , كردود طبيعية لم أكن أرضيها وكنت أعاندها , إذا رغبت في النزول منعتها وإذا رغبت في الراحة أرهقتها كما ترهقني بكلماتها ودعواتها علي وشكايتها من تخلفي العقلي الذي لا تستطيع تحمله  لهذا كنت أعاملها كخادمة , اعرف أنني ظالم لكنها من ارتضت هذا فلماذا حدث ما حدث ؟!..
يسأل أمير :
- وما الذي حدث بالضبط ..
يقول سعيد :
- ذبحتني , ذات مرةٍ وضعت ملعقة واحدَة من السكر في كوكب الشاي , سكبته على ملابسها وصفعتها , ماذا في هذا ؟ لقد اعتدت ضربهَا مرارًا لكنها دائمًا تتحمل , في هذا اليوم لا أعلم ما حدث , هبطت إلى عملي المعتاد , عندما عدت سألتني أين كنت , أخبرتها انني كنت في الورشة , قالت أنني كاذب , ركلتها في بطنها وصفعتها مرةً أخرى ودخلت للنوم وأنا أصفق الباب خلفي في عنف , رحت في النوم لكنني استيقظت عندما أحسست بالاختناق , استيقظت أبحث عن هواء لأجدها تحشر قميصًا في فمي وتضع السكين على رقبتي وتشده .
يسأله أمير :
- فقط ؟
يقول سعيد :
- أهناك شيء آخر تريده ؟ أعرف أنني لم أمت , لقد استيقظت لثوانٍ لأجد رقبتي محاطة بضمادة ضخمة وأشعر بخيوط معدنية تجمع جرحها , لكن عندما أفقت مرةً اخرى , كنت راكبًا في هذا الجحيم ..
- منذ متى أنت هنا ؟
يحاول سعيد ان يضحك لكنه يفشل عندما يتذكر الضيف الجالس على مقربة,  يقُول :
- آه انت راكب جديد إذن , هذه رحلتك الأولى أليس كذلك ؟ .. بعد هذا لن تسأل هذا السؤال , الزمن لا معنى له هنا ..
يسأله أمير :
- هي تركتك حيًا إذن أم من قام بإنقاذك ؟
- أنت أحمق , وكيف أعرف وأنا هنا ؟ وهل تم إنقاذي عندمَا جئت ؟ في هذه الرحلة تمنيتُ كثيرًا لو كانت طعنتها أكثر نفاذًا !
يسود الصمت لبرهة , يقول أمير فجأة لسعيد :
- هل ستهبط في المحطة القادمة ؟
- بالتأكيد ما دام الضيف هنا ..
- والموت بأنياب الذئاب ؟؟
- الموت ؟؟ لا موت هنا , الذئاب تمزق جثتك بينما تظل رأسك حية حتى يحين موعدها , يلتقطها الضيف وفي المحطة الأخيرة لا بد أن تواجه ما هو أسوأ 
- سيفشل عبد الظاهر إذن ..
يسأله سعيد :
- من ؟
- عبد الظاهر , ذلك الراكب الذي هبط عندما صعدت أنت ..
يمتقعُ وجه سعيد عندما تدوي ضحكة ساخرة , يطلقها الكائن الوحيد القادر على الضحك في هذه الرحلة , الضيف ..
ينتفض سعيد ويتبادل النظر مع أمير , يظهرُ الضيفُ بينهمَا فجأة , يضحك ضحكة أخرى قبل أن يتجاوزهمَا ويغيب , يغيب في الظلام , لثوانٍ يرتجف الجميع ويتلفت أمير إلى نورًا سائلاً : 
- هل اختفي ؟ هل ذهَب ؟
تهز كتفهَا علامة عدم العلم دون أن تجرؤ على الكلام , يدنو أمير من باب القطار الذي ظل ثابتًا على سرعته , لكنه لا يجرؤ على النظر بعد أن شعر أن رجفات البرد ستؤلم جسده , لحظات ولا يلبث أن يعود لمقعده وهو يراقب فزع سعيد ونورا ويشعر ببعض منه داخله , أين ذهب الضيف , هل غادر القطار ؟ هل هو في عربة أخرى , هل هناك أصلاً عربةٌ أخرى .
يكرر سعيد سؤال أمير باستنكار ووجل :
- أين ذهب ؟؟
- لماذا تهتم ؟ فليذهب إلى الجحيم , هذا أفضل 
- ليس أفضل ..
تقول نورا بعد صمت طويل :
- بالتأكيد ليس أفضل .
يسألها أمير :
- ولماذا ؟
- لقد بدأ الضيف رحلته , فلا بد أن تنتهي ..
- ولم لا تكون قد انتهت وانصرف !
- لأنها لا تنتهي إلا بالوصُول !
بعد أن ساد الخوفُ ساد الصمتُ والترقُب , إلا من صوت القطار الذي ينهب الوهم نهبًا إلى جهة غير معلومة لأحد , قطعت نور الصمت بقولها :
- سأهبط في المحطة القادمة , هل سنبقى سويًا ؟
يتذكر أمير تحذير عبد الظاهر لكنه يقول لها :
- لا بأس 
يلتفت إلى سعيد فيجيبه أنّه معهما , لكنه بدا ساهمًا شاردًا أكثر , لم يعره أمير اهتمامًا آخر , سأل نورا :
- هل لديك اي خطط ؟
- كلا , فلنهبط أولاً ثم نرى ..
يسأل مرةً اخرى :
- ماذا لو وجدنا الذئاب ؟
- لن نهبط إذن بالتأكيد ..
كان الباب مفتوحًا يروح ويجيء مع سرعة القطار وتردده , يثبته أمير أحيانًا بأن يقف خلفه ممسكًا إياه ,’ يستطيع أن يفهم لماذا تم إفساد القفل , فمن سيجلس في هذا الجحيم ويرغب بالشعور أنه مسجون أكثر من ذلك ؟
عندما أبطأ القطَار سرعتهُ إستعد الجميع للنزول , نهضت نورا وسعيد ليقتربا من الباب بينما آثر أمير الجلوس حتى اللحظة الأخيرة , أشعل سيجارة ليخفف من توتره ..
تفاءلت نورا أن الخوف سينجلي قليلاً مع هبوطهَا من هذه الرحلة المشئومة , أما سعيد فكان مستمرًا في شروده , عند الوصول لم يخفت الفزع كما ظنوا , لقد ازداد وتوجه , فقد كانت المحطة ساطعة الأضواء مرةً أخرى , لهذا عندما توقف لم يجرؤ أحد على الهبوط وهم يحدقُون في الرؤوس الفزعة المعلقة على جوانب الرصيف..
من هنا صعد الضيف ومن هنا يصعد كل مرة , لكنه الآن هبط فلماذا هم هنا ؟, يتساءلون في أعماقهم ..
تاتي الإجابة ليعرفوا أنهم هنا ليشاهدوا ما يشاهدوه , كان عبد الظاهر ..
لم يكُن وحده , كان واقفًا هناك وسط الأضواء الساطعة , العرق يغمر جسده والفزع يملأ وجهه وهو يتلفت حوله في سرعة ورعب , لم يرى القطار ولم ينظر جهته وكأنهم يشاهدونه على تلفاز وليس من خلف باب على بعد أمتار .
عندما كادوا ينادونه رأوا الذئاب وقد بدأت تحيط به فابتعلُوا ألسنتهم ووقفوا يشاهدُون في صمت , بينما أشاحت نورا بوجهها وأعطت ظهرها للباب وأخذت في البكاء , كان أمير وسعيد يشاهدان الذئب الأول وهو يقفز على عبد الظاهر الذي صرخ والأنياب تنغرس في ذراعه , لم تمهله البقية للمقاومة , صرخ أمير :
- عبد الظاهر ..
لكن بدا أن صوته لم بتجاوز حنجرته , إندفع محاولاً فعل اي شيء لكن سعيد جذبه بيد حديدية , قائلاص في رعب :
- ستموت أيها الأحمق , ستموت كالدجاج ..
يستعيد صوابه فيقف , يشاهد رجلا كان يجلس معه ويحاكيه منذ وقت وهو يتحول إلى أشلاء حيًا أمام عينيه , عندمَا إنتهت الذئاب وابتعد كل ذب بغنيمته التي لا تتبين لون دماءها من لونه تبقت الرأس الملوثة المفتوحة الساقطة على الأرض ..
هل كان الضيف يشاهد منذ البداية معهم أم ظهر الآن فقط ؟ سار في بطءً ليلتقط الرأس ويضعها في قطعة من القماش نزعها عن كتفيه , يستدير لينظر لركاب القطار , يبادله أمير النظر بينما يسقط سعيد أرضًا غير قادرٍ على الوقوف , أما نورَا فكان نحيبها الصامت لا يترك فرصة لأي نظرة تجاه اي أحد ..
عندما انطلق القطار مرةً أخرى لم يتحدث أحد لفترة طويلة , كان المشهد العالق بذاكرتهم بليغًا , أما أحلامهم في الهبوط على الأرصفة فقد تبددت تمامًا , يسأل أمير نورا :
- يقولون أن في المحطة الأخيرة ما هو أسوأ ؟..
تظل تنتحب , رغم مرور وقت إلا انها ما زالت تبكي , لا ترد , يقرر الصمت فتأتي الإجابة من جواره بغتة :
- بالتأكيد ..
الصوت العميق المميز للضيف , متى عاد ؟ كان يحمل اللفافة القماشية في يده , لا يدري أمير لماذا أوحى له مشهد المحطة أن راس عبد الظاهر سيعلق هناك , لكن الضيف قال وهو يشير بالرأس إليه كأنما يقرأ خاطره :
- لا أحد يهبط من قطار أركب فيه , ما لم يؤذن له ..
ينظر لنور التي ازداد بكاؤها :
- الآن تبكين ؟ 
تقول للضيف في جرأة لا تعرف كيف واتتها :
- أنتم وحُوش ..
يقُول لها الضيف بصوته العميق البطيء :
- حقًا ؟ أتذكرين ما فعلت .. 
تنظر لهُ نورَا في فزعٍ بينما يضيف هُو عن علم بتفاصيلها :
- الآن تعرفين من هو الوَحش ..
يلتفت لهَا أمير وفي عينيه استفسارٌ قبل أن يخمن أنّه ربما يقصد جريمتها مع الطبيب , يقول للضيف :
- أهكذا سيحدث لمن يهبط ؟
لا يجيبه الضيف , يخيل لأمير أن عينيه اللامعتين تتأملانة قبل أن يعدل الضيف اتجاهه في الممر .
في تؤدة يسير حاملاً اللفافة القماشية بضعة خطوات ليستقر في مقعده ويلقي بهَا تحت قدميه , وفي اللحظة التي تمالك سعيد قدميه ليستطيع الوقوف كانت نورَا قد انهارت تمامًا ..
لدقائق ظلّوا جميعًا يرتجفون , ثُلاثتهُم ..
قال أمير أخيرًا بعد جهد وكأنما يضع الحقيقة أمام أعينهم :
- إذن لا هبوط من هذا القطار , نحن في سجن يسير بلا قضبان ..
تقول نورا :
- سأهبط مهما حدث , لن أظل معه وليكن ما يكُون ..
يقول سعيد : 
- أنا سأقضي حياتي هنا لا بأس , إلا الذئاب ..
دخل في هيستريا من الفزع بينما قال أمير وصوته يعلو كأنما يحاول تبديد الخوف لكن كلماته ضاعفته :
- يقول أنه لا أحد يهبط ما دام راكبًا معنَا , قد يعني هذا أننّا في الطريق إلى المحطة الأخيرة وأنه لا خلاص !
يدير وجهه لنورا ويقول وهو يشير جهة الضيف :
- لا ترغبين بالتأكيد أن تكون رأسك مقطوعة حية في قماشة مجاورة لعبد الظاهر ..
استمر الصمت بعد ذلك وعقل أمير يدور في سرعة يعتصر عقلهُ في محاولةٍ لفهم أي شيء , آلاف الخواطر تدور في أذهانهم لمدة ساعات , قالت نورَا لأمير في محاولة لتزجية الوقت الذي لا ينتهي :
- قلت لي أن كنت ذاهبًا للانتحَار قبل أن تأتي هنا , ما الذي دفعك لذلك ..
جاء السؤال بغتةً لأمير لينتشله من أفكاره ويرميه في بحر ذاكرته محاولا تذكر التفاصيل , يقول غير مكترث :
- لا أذكر , ربما الملل , ما نراه الآن يكاد يُفقدني عقلي لا أذكر جيدًا ..
تسأله مستنكرةً بينما يجلس سعيد صامتا يستمع :
- الملل ؟!! 
يرد أمير :
- نعم , ربما , لقد سئمت كل شيء , سئمت ما كنت أفعله , سئمت المال الذي ملكته , سئمتُ النساء اللاتي عرفتهن , سئمت الأماكن المختلفة , سئمت الحيَاة ولم أعد أرغب بهَا , ثم هناك ذلك الحادث , لهذا كان الانتحار خيارًا حكيمًا 
تسأل نورَا :
- أي حادث ؟!
يقول لهَا سأخبرك :
- أعمل كسائق , أقود سيارة إسعاف , وأسير إلى حالات الطواريء وفي معظم الحالات أحمل المرضى أو الأموات , أنت لا تعلمين شيئًا عمّا أشاهده ..
ترد نورا :
- بلى أعلم , أنا ممرضة أيضًا , رأيت أنواع آلام البشر .
وتنظر حولهَا وهي تقول :
- لكنني لم أر شيئًا كهذا ..تابع من فضلك ..
يقول أمير :
- اتركيني لأكمل إذن , تعلمين أنت أن هناك حالات تكون السرعة القصوى ضرورة بهَا , يجب أن نصل للمريض ونجلبه في أقل وقت ممكن فهذا يقلل حالات الوفاة لدرجة كبيرة , وقد حدث , وصلت للمريض باسرع ما يمكن لكنني , حملته ووضعته في السيارة وكان ما زال حيًَا لكن يبدو أن حظه على وشك الإنتهاء , قام الطبيب معي بعمل الاسعافات الاولية ونقله وأمرني أن اقود بأقصى سرعةٍ ممكنة وهذا ما حدث ..
يصمت ليخرج سيجارة ويشعلها قبل أن يكمل :
- لأسعى لإنقاذ الشخص الذي كان معي فقد عبرت فوق أم وطفلتها لم يلحظا قدومي بتلك السرعة وحاولا العبور , دهستهمَا والأشنع أنني اضطررت للتوقف محاولا إنقاذ أي شيء ليموت المريض الذي كنت أحمله في السيارة بينما الطبيب يلطم ويصرخ ويدعو علي لأنني سأتسبب بفصلنا سويًا.
ينفث بضعة أنفاس من السيجارة , تقول له :
- وبعد ؟
يقول أمير :
- منذ هذه اللحظة زاغت عينيّ , واضطرب عقلي , فقدت مذاق كل شيء ومللته , وأثقلني الذنب والإثم وأنا ألعن هذه الوظيفة كل يوم , وأقسمت ألا أقود سيارةً ثانيةً , ثم في النهاية قررت الإنتحار وحدث ما حدث ..
تهز نورَا رأسها وتصمت ويشرد بصرها , بعد لحظات يسألها :
- وأنت ألن تقولي لي ماذا يقصد الضيف ؟
- ماذا تقصد ؟
- ما هي جريمتك ..
تتلعثم نورا وتقول له :
- لقد أخبرتك ..
يبدو عدم الاقتناع على وجهه لكنه يهزر رأسه , يقول لها :
- يخيل إلي أنني عرفت ما هي المحطة الأخيرة ؟؟
- ماذا ؟ كيف إذن ؟؟
- لا يحتاج الأمر لكثير من الذكاء , جميعنا على وشك الموت ولا أدرى أين أجسادنا ولا ما يحدث لها , لكننا لينا هنا رغم اننا نشعر بكل شيء , فما يحدث لا يحوي اي منطق كنا نفهمه في حياتنا ..
تسأله في فضول مرتجف :
- وما هي المحطة الأخيرة إذن ؟
يقول وهو ينظر لها ثم لسعيد الذي كان منتبهًا لتتسع عيناه في فزع بشكل كامل :
- إنها الباب الأول في الجحيم ..
تقول نورا :
- ما هذا الوصف , ظننتك ستقول شيئًا أكثر إقناعًا ..
يقول لها :
- أنا لا أصف , إن هذا ما سنجده فعلا 
يرفع صوته وينظر جهة الضيف وكأنما يسأله :
- أليس كذلك ؟
لا يجد ردًا ويغرقون جميعًا في أفكارهم , وعندما دوّت صافرة القطار هذه المرة , شعروا جميعًا بالحسرة وهم غير قادرين على الهبوط , لكنهم نهضوا ووقفوا جميعًا أمام الباب وفي عقولهم يدور تحذير الضيف وصورة ما حدث لعبد الظاهر التي يحاولون تناسيها وتجاهلها منذ رأوهَا ..
يتلصصون النظر إلى الضيف فيجدونه على هيئته , ينظرون للرصيف الذي يبطيء القطار بجواره حتى توقف , يفكرون في الهبوط حتى يكادوا يفعلون لكنهم يلمحون القادم عدوًا من الخلف محاولاً اللحاق بباب القطار الذي انطلق مرةً أخرى ..
يدخل الراكب الجديد ويزفر :
- أخيرًا , لقد تعبت من السير 
ينظر في وجوه سعيد وأمير ونورا فيتوقف عند وجهها في شدة , أما هي فتمسك بيد امير بقوة وتقف خلفه كأنما تحتمي به وهي تهتف في فزع صارخَة :
- باهر ؟!!
تفاجأ باهر أيضًا بوجود نورَا , صمت وهو يتطلع إليها في غضب بينما يلتقط أنفاسه وأمير يحول بينهمَا .
يقول باهر :
- أنت هنَا إذن , لقد بحثتُ عنكِ في كل مكَان !
تظل تنظر له من خلف أمير الذي ينظر جهة الخلف محاولا النظر لها لكنه يعتدل ليواجه باهر , يقول له :
- ولماذا تبحث عنهَا ؟! وأين كل مكان تقصد على طول هذا الرصيف ..
يشير باهر للخلف ويقول محتدًا :
- فلتسألها , ثم من أنت ؟!
يرد أمير :
- لا يعنيك , ثم لقد أخبرتني وأنت تستحق القتل لأنك مخادع !
يسأله باهر: 
- أي قتل ؟!
يقُول أمير :
- ألم تقم بتسميمك في المشفَى ؟
يقُول باهر :
- نعم , فعلَت الحمقَاء , لكنّهَا لم تسببّ لي أكثر من إغماءة ونزلة معوية لقد فزع الجميع عندما أغشي علي واستدعوا أمن المشفى ولكن لم يحدث شيء, يبدو أنها ارتجفت وسكبت معظم السم خارج الكوب , أو ان الصيدلي الذي منحها السم خدعها , لقد كانت نسبة لا تكفي لقتل قطة !!
يسأله أمير :
- فلماذا تبحث عنهَا إذن ؟!
- لم أبحث عنها هنَا بالطبع , بعد أن أفقت فهمت أنها محاولة منها لإرشادي لا لقتلي , حاولت البحث عنها في كل مكان , لكن لم أعثر عليهَا , عندمَا علمت أنها اصطدمت بسيارة و تم تحويلها للمشفى في حالةٍ حرجَة فقدت صوابي , عندها فقط اكتشفت أنني كنت أحبها حقًا وان ياسمين بكل طيبتها وسذاجتها لم تفهمني أو تصاحبني مثل نورا التي تعرف كل شيء عني وتشاركني فيه ورغم ذلك أحبها ..
يقول أمير مستنكرًا :
- رغم ذلك ؟!
كانت نورَا قد هدأت بعد أن اطمأنت قليلاً , تقدمت لتقف بجوار أمير , بينما يرد باهر :
- نعم رغم ما كنا نفعله في مشفى عبد الظاهر ..
يقولها وينظر لسعيد وهو يسأل :
- من هذا ؟ هل هو أخرس ؟
ينظر أمير لسعيد الغارق في خوفه صامتًا , ويقُول :
- دعك منه , ما الذي كنتم تفعلونه في المشفى بالضبط ؟
ينظر باهر لنورَا وهو يقُول :
- ألم تخبرك ؟! أخبرتك بمحاولتها قتلي فقط إذن ؟!
تشير له نورَا إشارةً خلفية بالصمت بينما أمير يقول :
- كلا لم تخبرني , لما لا تخبرني أنت ؟
يقول باهر :
- كلا , أريد أن أجلس قليلا فأنا أسير منذ برهة .
انتبهوا في تلك اللحظة أنهم ما زالوا واقفين أمام الباب , قال أمير وهو يستدير ليجلس :
- من الغريب أنك لم تفزَع عندمَا رأيته , ألا تعرفه ؟
يقول باهر : 
- من ؟!
يكاد أمير يجيب وهو يشير جهة الضيف إلا أن لسانه ينعقد عندمَا يجد العربة خالية , لا يوجد سواهُ و سعيد ونورا وباهر , يجلسون في مقاعد متقابلة على الجانبين بينما يواصل أمير للمقعد الذي يجلس الضيف به ليجد القماشَة التي تحوي رأس عبد الظاهر ما زالت هنَاك , لم يجرؤ على لمسهَا وإن إشتعل ذهنهُ مرةً اخرى حين جلس .
كيف يخرج من هنَا ؟ طيلَة حياتهِ آمن أن باستطاعته فعل أي شيء , الخروج من أي سجن , التغلب على أي شيء , تصور أنه يمكنه قهر الموت ذاته حتى ذهب إليه بقدميه راضخًا ..
يسألهم :
- ألا يعرف أحدًا شيئًا عن كيفية الخروج من هنا ؟
يقول سعيد وهو ما زال يرتجف :
- لا , لا أمل , لا هروب , لا مفر ..
يقول باهر :
- كيف ؟ ألديك اقتراح ؟
تصمت نورا فيقول أمير مرةً أخرى :
- أنا اسألكم , أنتم الوافدون أولاً , منذ متى وأنتم هنا ولا تعرفون ؟
تسأله نورَا مباشرةً :
- منذ متى وأنت هنَا ؟
يصمت أمير محاولاً الحساب فتتابع :
- لا جدوى , لا زمن هنا ولا وقت , لن تذكر وستظل للأبد تمر بالمحطات فتظن أنك ركبت من بداية الرحلة وتعرف أنك ستهبط في نهايتها , ربما كانت هناك فرصة لراحةٍ على الرصيف , لكنها لم تعد متاحَة !
يعلق باهر :
- لم تعد متاحَة ؟؟
تقُول له نورَا :
- الضيف , إنه يحرس هذا القطَار ..
يردد باهر :
- الضيف ؟! يا إلهي ..
بينما يقُول أمير :
- إذن لا أحد يملك حلولاً أو يفكر في ذلك ..
تسأل نورا باهر :
- من أين عرفت عن الضيف ؟
يقُول لهَا باهر الذي ما زال ينتفض :
- أهناك من يجيء هنا دون أن يعرفه ؟ قابلت متسولةً على الرصيف حكت لي عنه .
تذكر أمير المتسولة التي حذرته في بداية الرحلة ولم يطل حديثه معها , تمنى لو كان يفهم لربما أفادته بشيء , قال لباهر في اهتمام شديد :
- ماذا قالت لك ؟
يقُول باهر :
- لا أذكر بالضبط فلم أعر كلامها اهتمامًا , قالت شيئًا عن أحد ملائكة الجحيم ذوي المهمات الخاصة الأبدية , موفد مهمته تطهير هذه الأرض في عالمٍ لا يراهُ أحد بينمَا يرانَا الجميع , قالت أنه يحرس هذا القطَار , كان هذا تقريبًا ما قالته ..
- تقريبًا ؟!!!
يقولها سعيد الذي راح يولول , بينمَا تدور عيني نورَا وهي تنظر لأمير الذي قال لها أن هذا القطار ينتهي بأحد أبواب الجحيم , سأل أمير باهر في فضول :
- ألم تذكر شيئًا عن علامة لمقعدك ؟
- نعم قالت لي ذلك لا أنسى ترك علامة بمقعدي , سألتها هل سيزدحم القطَار , قالت لا , ذكرى للقادمين ..
يتشاءم أمير من قوله ويصمتان ليسمعَا صوت القطار يشق الهواء البارد , هل لا يوجد نهارٌ خارج هذا القطار ؟ هل طيلة هذا الوقت هم في ساعات ليلٍ واحِد ! , يتساءل في أعماقه عن أي لعنةٍ هذه ..
تقول لهم نورَا في خوف :
- أنا غير مطمئنة , اين ذهب الضيف ؟ هل يراقبنا ؟
يقول أمير في عملية :
- لا اعلم لكن ما أعلمه أنكم حمقى لأنكم لا تفكرون في الخلاص , كقطيع ماشية يساق للذبح , سأهبط في المحطة القادمة وأبحث عن مخرج , وليكن ما يكُون .
صمتُوا جميعًا بينمَا في أعماقه كان أمير يتساءل , هل ستمزقه الذئاب عندما يهبط ؟!
بعد لحظةٍ سألته نورَا :
- أرجوك لا تهبط , ألم تر ما سيحدث لك ؟
يرد أمير :
- عجيبٌ أمرك , وتريديني أن أنتظر ما هو أسوأ من كل شيء معكم ؟ سأهبط وإذا كنتم ستبقون من يعلم , ربما نلتقي مجددًا .
تنظر لباهر فتجدهُ سارحًَا لا يكترثُ لهَا , لقد قال منذ قليل أنه يحبها رغم كل شيء , لماذا لا تشعر جهته بشيء , ولا يبدو أنه يهتم بها كأنه يعرفها أو آذته , تقول لأمير :
- يبدُو أننا لن نشعر هنا سوى بالخوف , سوى بالرعب .. 
يقول لها أمير :
- باستطاعتنا الشعُور بكل شيء , فقط لا تدعي خوفك يسيطر على عقلك , وسترين ..
- ابق معنَا , سنفقدك عندما تهبط ..
- لا استطيع الصبر لقد مللت هذا القطار وسأكون راضيًا إن كانت راسي بجوار عبد الظاهر وقد فعلت ما أردته .
يسود الصمت قبل أن تسأل باهر :
- ما دمت لم أقتلك فكيف أتيت إلى هنا ؟
يقول لها باهر :
- ليس هذا الموت , أنت في غيبوبة , لقد رأيتك وزرتك قبل أن أجيء بدوري , بعدها اصطدمت بسيارتي سيارة نقل كبيرة , سائقهَا كان يتعمد ذلك , أفقت في المشفى وعرفت أنه تم نقل الكثير من الدماء لي قبل أن يأخذني الوهن لأجد نفسي راكبًا ..
يفكر أمير قليلا , يقول لهم :
- عبد الظاهر أيضًا كان في المشفى , وأنا كذلك وسعيد ..
يضيف بعد تفكير :
- إذن يمكن القول أننا لم نمت بعد , نحن نحتضر , في غيبوبات الوفاة لكنها لم تعلن بعد , لو أن هناك من سيعمل بمبدأ الرحمة لقتلنا جميعًا في أسرتنا , لكننا دونا عن الجميع مررنا من هنا , كيف ؟
تقول نورا :
- ربما يأتون , لم أحتضر من قبل !
يقُول أمير :
- ربما , ولكن يبدو لي عددنا أقل من اللازم , ثم أنتم , من هنا في هذا العالم منكم أيضًا , كيف تعرفون بعضكم , كيف تجمع الصدفة بينكم جميعًا هنا , أنت وباهر وعبد الظاهر ..
كان أمير قد تحدث عن بعض أفكاره لكنه لم يخبرهم أنه يشك أنهم جميعًَا هنا لسبب واحد , أنهم يعرفونه وهو يعرفهم ويعرف سعيد لكنه لا يستطيع ايجاد رابط , لكن بصورة كبيرة كان عقله يلح في ذلك .
يسأل أمير سعيد :
- هل تعرف عبد الظاهر ؟ هل عرفتهُ من قبل ؟
ينظر له سعيد في بلاهة وغباء , يكرر أمير سؤاله ولكن يبدو أن سعيد لم يسمع , كان مذهولاً ينظر للفراغ بينمَا يسيل لعابه على ذقنه كمن فقد السيطرة في غلق فمه ..
يعود للتفكير في ما يحدث , يلحظ همسات تدور بين باهر ونورا فيفكر أن الحب قد يبدد وحشة كل هذه الكآية , ولكن هل هو كذلك حقًا ..
يقوده عقله لذاكرته التي يغوص فيها متذكرًا الكثير من التفاصيل متسائلاً هل لها جدوى , هل كان سعيدًا من قبل ؟ هل كان تعسًا ؟ لماذا تبدو له حياته كزجاجة فرغت لتوها من الماء , يستغرق في ذاكرته و ينظر جهة النافذة إلى الطريق الذي مل تفاصيله في هذا الليل الذي لا ينتهِي , ينتبه على صوت سعيد الذي كان يدندن أغنية ساخرة ضاحكًا لا تتناسب مع ما يحدُث حوله أو رعبه منذ ركب القطار , يتبادل ثلاثتهم النظر في فهم قبل أن يعلن أمير في أسى وحزن :
- يا إلهي , سعيد فقد عقله , لقد جن تمامًا ..
ينظر سعيد له نظرةً شرسَة بينما يتابع أغنيته ضاحكًا , لا يلتفت أمير له فقط ينهض عندما يجد أن القطار قد أبطأ من سرعته , يزفر محطة جديدة لكنه نوى أن تكون محطته الأولى , لا يعلم منذ متى ركب ولكنه حتى الآن لم ينعم بدقيقة من الصمت بعيدًا عن الصوت المزعج للقطار وصافرته ..
ينظر أمير لهم ويقول :
- الوقت قد حان, تعالوا معي ..
يقول باهر : 
- ركبت من محطة واحدة , تقُول أن الضيف هنَا , لن أتظاهر أنني لم أعرف , لن انزل الآن مطلقًا , فلتنتظر أنت معنا ؟
يهز أمير رأسه رافضًا بينما تقول نورا :
- لن أهبط , من يهبط سيموت , ألا تفهمون ..
لا يرد أمير ويظل واقفًا أمام الباب المفتوح ..
عندما يصل القطار للرصيف خافت الأضواء يسألهم أمير النزول مرةً أخرى فينظرون لبعضهم في تردد كأنما الوصول يذبذب أفكارهم , لكنه لا ينتظر إجابة , يهبط على الفور بينما لا يمهلهم القطَار فرصةً أخيرةً للتفكير إذ يتحرك على الفور , عندما غاب عن عينه بقي أمير وحده على الرصيف ينظر حوله , بدا له الجو كئيبًا مرعبًا لكنه ربما يلتقي أحدًا يرشده لشيء .. 
جلس على أحد المقاعد الإسمنتية العريضة ليفكر كيف سيتجه , من المفترض أن يتجه رأسيًا عكس الرصيف , بأن يعطي القطار ظهره ويواصل البحث عن مخرج في هذا الاتجاه , ومن المفترض أن يكون الرصيف لا يتجاوز عرضه بضعة أمتار , ولكنه يرمي عينه فيرى أن لا نهاية له , يقوم سائرًا كما خطط , بعد عشرين خطوة لم يتغير المشهد أمامه , ما زالت المباني في موضعهَا كأنه لا يقترب منها , ينظر للخلف ليتأكد أنه ابتعد عن المقعد فيذهله أن المقعد الأسمنتي على بعد ثلاثة خطوات منه ..
الآن بدأ يدرك في أي متاهةٍ هو ..
ولأول مرةٍ منذ جاء لهذا المكان يعض أمير شفته من رجفَات الخوف , ولأول مرةٍ في حياتهِ يدرك أن هناك ما يفوق منطقه وفهمه , يدرك أنه ضائع كطفل عمره أيام لا يستطيع إمساك شيءٍ لرقة كفه ودقتها ..
لكن هنا ليس هناك من يعني به , وهو عاجز كليًا عن العناية بنفسه .
يقرر السير بمحاذاة طرف الرصيف , نفس الطريق الذي ذهب القطارُ إليه , ولكنه يسير على قدميه , بعد عدة مقاعدٍ إسمنتية متشابهة عرف أنها ممتدة للنهاية , كيف ينتهي الرصيف سريعًا عندما ينطلق القطار وهو الآن يسير منذ ساعتين ولم يبد أنهُ سارَ خطوةً واحدَة .
يجد بصيصًا من الأمل يغزوه عندما يجد من يجلس أمامه بعد اربعة مقاعد إسمنتيه , يجرب السير له لربما يصل , يقترب منه حتى يقف أمامه فيميز العمامة المشئومة , يهتف :
- الضيف ؟
يتمنى أن يجن كما حدث لسعيد , يفكر قليلا فيجد أنه لن يخسر شيئًا وماذا سيخسر ؟ يجلس جوار الضيف الذي لا يرد أو يتحرك إلا عندما يجلس أمير , ينظر له فيرى أمير العينان المخيفتان , ينتقل بصره تلقائيًا بحثًا عن مخالبه الظاهرة فلا يجد يديه ظاهرتان , يقول له أمير :
- لماذا لا تجيب , هل تحب الصمت ؟؟!
يقُول الضيف له :
- ألم أحذرك من النزول ؟
يسأل أمير :
- وهل أتيت لتحاسبني ؟ أين الذئاب ؟
يقولها ويلتفت حوله , يقول الضيف وهو ينظر تجاه القضبان التي لا يعرف أمير شكلها في الظلام الذي لا تبدده الإضاءة الخافتة البعيدة للرصيف :
- لا ترغب أن تراهم , سيتركوا رأسك بينما ستشعر بأنيابهم تُغرس بكل جزء فيك , لا تتعجّل ..
يسأله أمير في حذر :
- لماذا تركتنا في القطار وهبطت ؟
يقول الضيف :
- من ترككم ؟ أنا هناك !
يسأله أمير في حذر أكثر :
- كيف وأنت هنا ؟ هل تخدعنِي ؟
ينظر له الضيف طويلاً حتى يعاود الرعب أمير , يقول :
- لعالمي جئتم , أنا في كل ركنٍ فيه .
يسأله أمير مباشرة بعد تفيكر:
- كيف أخرجُ من هنا ؟!
يُجيب الضيف بصوتهِ العميق :
- أنت لم تفهم بعد , هذه الرحلة سيئة , الأسوأ هو النهاية ..
يصمت ثم يقُول :
- حين تخرج لن ينتهِي عذابك , بل سيبدأ .
يسأله أمير :
- لماذا تتركني الآن وتركت الذئاب تأكل عبد الظاهر ..
يلتفت الضيف له مرةً أخرى وهو يعدل من جلسته بأكملها ليواجهه :
- ومن قال أنني تركتك , عندمَا أصل لك ستندم .
يقولها وينظر جهةَ الأعلى في اهتمَام , فينظر أمير تلقائيًا مثله وهو يفكر كيف سيصل لهث وهو معه ! , ما هذا ؟! , كان ضوء النجوم يتغير بين الأبيض الساطع إلى الأحمر ويعود عدة مرات في الثانية حتى ليكاد يراها نجوما صفراء أو يكاد يراها حمراء , لم يستطع أمير أن يزيح عينيه عن المشهد إلا عندما عادت النجوم للونها الطبيعي مع صوت الضيف الذي قال :
- الآن حَان الوقت ..
يسأل أمير في رهبةٍ مما رآه: 
- أي وقت ؟
وعندمَا لم يسمع الإجابة , وجدَ أن الضيف لم يعد هنَاك , تلفت حوله في كل جهة في مجال رؤيته فلم يجده , هل كان وهمًا ؟ تساءل هل يواصل سيرهُ أم يجلس وهل للسير جدوى هنَا ؟ هل سيظل جالسًا للأبد أم سينتظر القطار القادِم ؟ جاءته الإجابة من حيث لم يتوقع فقد نهض فجأة عندمَا سمعَ تلك الصرخَة .
يتبع 
للتقييم على goodreads

شكرا لتعليقك